قلت: القرن: أهل العصر، سُموا به لِقران بعضهم البعض، و (تَتْرا) : حال، فمن قرأه بالألف فهو كسكرى، وهو من الوتر، واحداً بعد واحد، فالتاء الأولى بدل من الواو، وأصله: وَترى، كتراث وتقوى، والألف للتأنيث، باعتبار أن الرسل جماعة، ومن نَوَّنَه جعله كأرطى ومعزى، فيقال: أرطى ومعزى، وقيل: مصدر بمعنى فاعل، أي: متتابعين.
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد قوم هود، قُرُوناً آخَرِينَ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ، «مِنْ» : صلة، أي: ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة أَجَلَها الذي عُيِّن لهلاكها في الأزل، وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعة. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا، عطف على «أنشأنا»، على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة، وما بينهما اعتراض، والمعنى: ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين، قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به، والفصل بين الجملتين بالجملة المتعرضة الناطقة بعدم تقدم الأمم أجلها المضروب لهلاكهم للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجه إجمالي.
وقوله: تَتْرا أي: متواترين واحداً بعد واحد، أو متتابعين يتبع بعضهم بعضا، كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ، الرسول يلابس المرسِل والمرسلَ إليه، والإضافة تكون بالملابسة، فأضافهم أولاً إلى نون العظمة، وهنا إلى المرسل إليهم للإشعار بكمال شناعتهم وضلالتهم، حيث كذبت كلُّ أمةٍ رسولها المعين لها، وعبَّر عن التبليغ بالمجيء للإيذان بأنهم كذبوه في الملاقاة الأولى، فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك، كما تبع بعضهم بعضاً في الكفر والتكذيب، الذي هو سبب الهلاك، وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أخبار، يُسمر بها ويُتعجب منها، أي: لم يبقَ منهم إلاَّ حكايات يعتبر بها المعتبرون، والأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه: أحاديث النبي- عليه الصلاة السّلام- ويكون جمعاً للأحدوثة، وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً، وهو المراد هنا، فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ به وبرسله، اقتصر هنا على عدم إيمانهم، وأما القرون الأولى، فحيث نقل عنهم ما مرَّ من العتو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان، وصفهم بالظلم. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: كل ما حكى الله تعالى عن القرون الماضية والأمم السابقة، فالمراد ترهيب هذه الأمة المحمدية، وإزعاجٌ لها عن أسباب الهلاك، وإنهاض لها إلى العمل الصالح، لتكون أحاديث حِساناً بين الأمم، فكل إنسان ينبغي له أن يجتهد في تحصيل الكمالات العلمية والعملية، ليكون حديثاً حسناً لمن بعده، كما قال القائل:

وقال آخر:
مَا الْمَرءُ إلا حديثٌ من بَعدِه فَكنْ حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعَا
ومَا الْمَرءُ إلا كالشَّهابِ وضوءه يحور رمادا بعد ما هو سَاطِعُ
ومَا المَالُ والأَهلْونَ إلا وديعةٌ ولا بُدَّ يوماً «١» أن تُردَّ الودائع
وبالله التوفيق،
(١) فى الأصول: ولا بد من يوم.


الصفحة التالية
Icon