يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ، هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة، وإنما المعنى: الإعلام بأنَّ كل رسول في زمانه نُودي بذلك، ووصي به للإيذان بأن إباحة الطيبات شرعٌ قديم، جرى عليه جميع الرسل- عليهم الصلاة والسّلام- وَوُصّوا به، أي: وقلنا لكل رسول: كُلْ من الطيبات واعمل صالحاً. فعبَّر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع للإيجاز، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات مالا يخفى. قاله أبو السعود. وقيل:
خطاب لعيسى عليه السّلام لا تصال الآية به، وكان يأكل من غزل أمه، وهو من أطيب الطيبات، وقيل: لنبينا محمد ﷺ لفضله وقيامه مقام الكل، وكان يأكل من الغنائم، وما رزقه الله من غير اختيار على الله، والجمع: للتعظيم فيهما، والطيبات: ما يُستطاب ويُستلذ من مباحات المآكل والفواكه، حسبما يُنبىء عنه سياق النظم الكريم.
وَاعْمَلُوا عملاً صالِحاً، فإنه المقصود منكم شكراً لما أُسدي إليكم، ولا تشتغلوا بالنعم عن طاعة المنعم وشهوده، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة، عَلِيمٌ، فأجازيكم عليه، وفيه تهديد للمذكورين، فما بالك بغيرهم ممن ألهته النعم عن شهود المنعم وشكره؟! وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ «١» أي: ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها أُمَّةً واحِدَةً أي: ملة واحدة، متحدة في أصول الشرائع، التي لا تُبدل بتبدل الأعصار، وهو التوحيد وما يتبعه من أصول العقائد. وَأَنَا رَبُّكُمْ من غير أن يكون لي شريك في الربوبية، فَاتَّقُونِ: فخافوا عتابي في مخالفتكم أمري، أو في شق العصا، والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي.
والخطاب للرسل والأمم جميعاً، على أن الأمر في حق الرسل للتهييج، وفي حق الأمم للتحذير. قيل: وجاء هنا:
«فاتقون»، الذي هو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء: فَاعْبُدُونِ «٢» لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين، وفي الأنبياء، وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام، في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته.
ثم قال تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أي: فتفرقوا في أمر دينهم مع اتحاده، وجعلوه قطعاً متفرقة، وأدياناً مختلفة، بَيْنَهُمْ زُبُراً أي: قطعاً- جمع زَبور، بمعنى الفرقة، ويؤيده قراءة مَن قرأ: (زُبُراً) بفتح الباء، جمع زُبْرة كغُرْفة، أي: قطعاً مختلفة، كلٌّ ينتحل كتاباً، وقيل: جمع زَبور، بمعنى كتاب، أي: كل فريق يزعم أن له كتاباً يتمسك به. وعن الحسن: قطعوا كتاب الله قطعاً وحرَّفوه، والأول أقرب، أي: تفرقوا في أصل الدين فرقا،
(٢) أي: في قوله تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون». الآية ٩٢ من سورة الأنبياء.