وعدم الفطنة أو العناد والمكابرة، وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ عن طريق الحق لَناكِبُونَ أي: لعَادلون عن هذا الصراط المذكور، وهو الصراط المستقيم، وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة، تشنيعاً لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا، وزعمهم ألاَّ حياة إلاَّ حياة الدنيا، وإشعاراً بعِلّيّة الحُكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أمور الدعاوي إلى طلب الحق وسلوك سبيله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل مَن أنكر على أهل الخصوصية، ولم يعرف خصوصيتهم فسببه ثلاثة أمور: إما أنه لم يصحبهم ولم يتدبر ما يقولون، ولا ما يأمرون به وينهون عنه، وإنما يرميهم رجماً بالغيب، وإما أنه حسدهم وخاف على جاهه أن ينتقل لغيره، وإما أنهم أتوا بخرق عوائد النفوس التي لم تكن لآبائهم الأولين، فقالوا: (إنا وجدنا آباءنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارهم مُّقْتَدُونَ)، وإنما جاءهم بالحق، وأكثرهم للحق كارهون، وكيف تُخرق للعبد العوائد، وهو لم يخرق من نفسه العوائد؟. (وَلَوِ اْتَّبَعَ اْلحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ)، بأن كانت التربية على طريق العوائد، والاستمرار معها، لفسد النظام، ولبقي الكون كله ظلمة لجميع الأنام إذ لا يمكن أن يصير الكون نوراً، بظهور الحق فيه، إلا بخرق عوائد النفوس، وإخراجها عن هواها، فحينئذٍ تخرق له ظلمة الكَون، فيفضي إلى شهود المكَوّن، (بل أتيناهم بذكرهم) أي:
بشرفهم، بمعرفة الحق على نعت العيان، (وهم عن ذكرهم معرضون) حيث انهمكوا في عوائدهم، ولم يقبلوا من يخرجهم عنها ويعرفهم بالله لله، من غير خراج ولا طمع.
قال تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: (أم تسألهم خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ). قال القشيري: أي: إنَّكَ لا تُطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرة، ولا بإعطاءِ عِوَض، حتى تكون في موضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة، أم لعلك تريد أن يَعْقدُوا لك الرئاسة، ثم قال: والذي لَكَ من الله- سبحانه- من جزيل الثواب، وحسن المآب، يُغْنيك عن التصدي لنيلِ ما يكون في حصوله منهم مطمع. وهذه كانت سُنَّة الأنبياء والمرسلين- عليهم السلام- عملوا لله فلم يطلبوا عليه أجراً من غير الله، والعلماء ورثة الأنبياء في التنزه من التَّدَنُّس بالأطماع، والأكل بالدين، فإنه ربا مُضِرٌّ بالإيمان، إن كان العملُ لله فالأجر مُنتظرٌ من الله، وهو موعودٌ مِن قبل الله. هـ.
وراجع ما تقدم في سورة هود فإنه أو فى من هذا «١».
وقوله تعالى: (وإنك لتدعوهم إِلى صراط مستقيم)، هو طريق الوصول إلى شهود الذات الأقدس، من طريق التربية، التي هي مخالفة الهوى والخروج عن العوائد. وقال القشيري: الصراطُ المستقيمُ: هو شهودُ الحقِّ بنعت الإنفراد في جميع الأشياء، والإيجاف «٢»، والاستسلام لقضايا الإلزام، بمواطأة القلب من غير استكراه الحُكمْ. هـ.
وقال الورتجبي عن بعضهم: لولا أن الله- تعالى- أمر بمخالفة النفوس ومباينتها، لاتَّبع الخلق أهواءهم فى شهوات
(٢) فى القشيري: وفى الإيجاد.