قلت: اللَّهُ: مبتدأ، والَّذِي رَفَعَ: خبره، ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وعَمَدٍ:
اسم جمع عمود، وقياس جمعه: عُمُد، كرسول ورُسُل، وشهاب وشُهُب، وليس جمعاً خلافاً لأبي عبيد. قاله ابن عطية. وقال البيضاوي: جمع عِمَاد، كإهاب وأهب. وجملة: تَرَوْنَها: إما حال، أو استئنافية فالضمير للسماوات، وإما صفة لعَمد فالضمير لها، أي: ليس لها عَمد مرئية، فيقتضي بالمفهوم أن لها عمداً لا تُرى. وقيل: إن عمدها جبل قاف المحيط بالدنيا. والجمهور: أنه لا عمد لها البتة. فالمراد نفي العمد، ونفي رؤيتها. قاله ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله مستدلاً على وجوده، وكمال قدرته: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ فوقكم كالسقف المرفوع بِغَيْرِ عَمَدٍ: أساطين، بل بقدرة أزلية، تَرَوْنَها مرفوعة فوقكم. أو بغير عَمَد مرئية، بل بعمد خفية، وهي: أسرار الذات العلية إذ لا فاعل سواه. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء استيلاء وإحاطة، حتى صار العرشُ غيباً في إحاطة قهريته وأسرار ذاته. وقد كانت العرب تجعل لملوكها سريراً يجلسون عليه لتدبير المملكة، فخاطبنا الحق تعالى بقدر ما نفهم «١»، ولذلك رتب عليه قوله: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لأن هذا من تدبير ملكه، أي: ذللهما لما أراد منهما، كالحركة المستمرة على حد من السرعة لينتفع بهما عباده في معاشهم ومعالم دينهم. كُلٌّ منهما يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى: لمدة معينة تتم فيها أدواره، أو لغاية مضروبة ينقطع فيها سيرهما وهي يوم القيامة حين تكوّر الشمس والقمر. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر ملكه من الإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة، وغير ذلك، يُفَصِّلُ الْآياتِ: ينزلها، ويُبين معانيها مفصلة، أو يُحدث الدلائل واحداً بعد واحدٍ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ: لكي تتفكروا فيها، وتتحققوا كمال قدرته، فتعلموا أنَّ مَن قَدَر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء.
الإشارة: الله الذي رفع سموات الأرواح، وزينها بنجوم العلم وقمر التوحيد، وأشرق عليها شموس العرفان وأسرار التفريد، ثم استوى بأسرار ذاته وأنوار صفاته على العرش، وهو قلب العارف لأنه سرير المعرفة، ومحل بيت الرب، وسخر شمس المعرفة وقمر التوحيد، يجريان بالترقي إلى محل التمكين، وهو الأجل المسمى لهما، يدبر أمر السير والترقي، ويُفصِّل دلائل الطريق الموصلة إلى عين التحقيق لعلكم بالوصال إلى ربكم توقنون، حين يكون ذوقاً وكشفاً. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر العالم السفلى، فقال:
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣ الى ٤]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)

(١) سئل الإمام مالك، عن الاستواء على العرش، فقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب..)، وإذا كان علم حقيقة الصفات فرع عن علم حقيقة الذات المقدسة، وإذا كنا لا نحيط بالله علما، فإننا لن نحيط بصفات الله علما، كذلك، فنقول: آمنا به، كلّ عند ربنا.


الصفحة التالية
Icon