البوار، وهي: الإقبال على الدنيا، والانهماك في الغفلة، وخراب الباطن من نور اليقين، وكثرة الخواطر والوساوس، والحرص والجزع والهلع، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأيُّ عذاب للمؤمن أشد من هذا في الدنيا؟ ويسقط في الآخرة عن درجة المقربين، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئاً فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه ذات يوم: إنا لا نحب إلا الله، ولا نحب معه شيئاً سواه. فقال له بعض الحاضرين: قال جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النفس مجبولة على حب من أحسن إليها». فقال له الشيخ: إنا لا نرى الإحسان إلاَّ مِن الله، ولا نرى معه غيره. هـ. بالمعنى.
ثم ذكر ضد أهل الشرك، فقال:
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ٣١]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
قلت: (يُقِيمُوا) : جواب شرط مقدر، يتضمنه قوله: (قُلْ)، تقديره: إن تقل لهم أقيموا يقيموا، ومعمول القول، على هذا، محذوف. وفيه تنبيه على أنهم لفرط مطاوعتهم للرسول- عليه الصلاة والسلام-، بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره، وأنه كالسبب الموجب له، أي: مهما قلت أقاموا وأنفقوا. وقيل: جزم بإضمار لام الأمر. ولا يصح أن يكون جواب الأمر من غير حذف لأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة. انظر البيضاوي. وقال ابن عطية: إلا إن ضمّن (قُلْ) معنى: بلّغ أو أدَّ، فيصح أن يكون (يُقِيمُوا) : جواب أمره. و (سِرًّا وَعَلانِيَةً) : حالان، أو ظرفان، ومن قرأ: «لا بيع» بالبناء «١» فقد بنى «لا» مع اسمها بناء التركيب، ومن قرأ بالرفع فقد أهملها.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا، خصهم بالإضافة إليه تشريفا لهم، وتنويهاً بقدرهم، وتنبيهاً على أنهم الذين قاموا بحقوق العبودية. قل لهم يا محمد: يُقِيمُوا الصَّلاةَ التي هي عنوان الإيمان، بإتقان شروطها وأركانها وآدابها، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال، فرضاً ونفلاً، سِرًّا وَعَلانِيَةً أي:
مُسرين ومعلنين، أو في سر وعلانية، والأحب: إعلان الواجب، وإخفاء المُتَطَوَّع به، إلا في محل الاقتداء لأهل الإخلاص. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو ما يفدي به نفسه، وَلا خِلالٌ: ولا مخاللة ومودة تنفع في ذلك اليوم، حتى ينفع الخليلُ خليلَه، وإنما ينفع العملُ الصالح، كالإنفاق لوجه الله، وإقام الصلاة، وغير ذلك.
الإشارة: قد مدح الله هاتين الخصلتين: الصلاة والإنفاق، وأمر بهما في مواضع من القرآن لأنهما عنوان الصدق، أحدهما: عمل بدني، والآخر: عمل مالي. أما الصلاة فإنها طهارة للقلوب، واستفتاح لباب الغيوب، وهى

(١) قرأ ابن كثير وابن عمرو ويعقوب «لا بيع فيه ولا خلال» وقرأ الباقون «لا بيع فيه ولا خلال» راجع الإتحاف (٢/ ١٦٩).


الصفحة التالية
Icon