واعصمني، وَبَنِيَّ من بعدي، من أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي: اجعلنا منهم فى جانب بعيد. قال البيضاوي:
وفيه دليل على أنَّ العصمة للأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته، وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم، محتجاً به، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها، ويسمونها الدوار، ويقولون: البيت حجر، وحيثما نصبت حجراً فهو بمنزلته. هـ. قال ابن جزي: وبَنِيَّ يعني: من صُلبه، وفيهم أجيبت دعوته، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام. هـ. وقد قال في الإحياء: عنى إبراهيمُ عليه السلام بالأصنام، الذهب والفضة، بمعنى: حبهما والأغترار بهما، والركون إليهما. قال عليه الصلاة والسلام: «تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ والدِّرْهَم... » الحديث لأن رتبة النبوة أجل من أن يُخْشى عليها أن تعتقد الألوهية في شيء من الحجارة. هـ.
قلت: الظاهر أنَّ يبقى اللفظ على ظاهره، في حقه وفي حق بنيه. أما في حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد، كما هو شأن الأكابر، لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، وهذا كقوله: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً «١». وتقدم هذا المعنى مراراً. وأما في حق بنيه فإنما قصد العموم في نسله، لكن لم يجب إلا فيما كان من صلبه فإن دعاء الأنبياء- عليهم السلام- لا يجب أن يكون كله مجاباً، فقد يُجابون في أشياء، ويُمنعون من أشياء. وقد سأل نبينا ﷺ لأمته أشياء، فأجيب في البعض، ومُنع البعض. كما في الحديث «٢».
ثم قال إبراهيم عليه السلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي: إن الأصنام أتلفت كثيراً من الخلق عن طريق الحق، فلذلك سألتُ منك العصمة، واستعذتُ بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية، كقوله: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا «٣». فَمَنْ تَبِعَنِي على ديني فَإِنَّهُ مِنِّي لا ينفك عني في أمر الدين، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، تقدر أن تغفر له ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أنَّ كل ذنب فللَّه أن يغفره، حتى الشرك، إلا أن الوعيد فرَّق بينه وبين غيره. قاله البيضاوي. قال ابن جزي: وَمَنْ عَصانِي يريد: بغير الكفر، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان فيه- عليه السلام- من التخلْق بالرحمة للخلق، وحسن الخُلق. هـ.
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي: بعض ذريتي، وهو: إسماعيل عليه السلام، أو: أسكنت ذرية من ذريتي، وهو إسماعيل ومن وُلِد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم، بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يعني: وادي مكة، لأنها حجرية

(١) من الآية ٨٠ من سورة الأنعام.
(٢) قال صلى الله عليه وسلم: «سألت ربى ثلاثا، فأعطانى ثنتين، ومنعنى واحدة. سألت ربى أن لا يهلك أمتى بالسّنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» أخرجه مسلم فى (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض) من حديث عامر بن سعد عن أبيه. [.....]
(٣) من الآية ٧٠ من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon