جريانه في الأودية، أو اجتماعه في الآبار والحياض، مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي: نسقي ذلك بهائم وناساً كثيراً. والأناسي: جمع أُنْسِيّ، ككرسي وكراسي. وقيل: جمع إنسان، وأصله: أناسين، وأبدلت النون ياءً، وأدغمت التي قبلها فيها. وقدَّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي لأن حياتها سبب لحياتهما. وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها.
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي: هذا القول، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة، في القرآن وغيره من الكتب السماوية، أو: صرفنا المطر عاماً بعد عام وفي بلدة دون أخرى. أو: صرفناه بينهم وابلاً، وطَلاًّ، ورذاذاً وديمة. وقيل: التصريف راجع إلى الريح. وقيل: إلى القرآن المتقدم في قوله: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.. «١» ويعضده: وَجاهِدْهُمْ بِهِ «٢». وقوله: بَيْنَهُمْ أي: بين الناس جميعاً متقدمين ومتأخرين، لِيَذَّكَّرُوا ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه، أو: ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ ممن سلف وخلف إِلَّا كُفُوراً أي: جحودا لهذه النعمة وقلة اكْتِرَاثٍ بها، وربما نسبوها إلى غير خالقها، فيقولون: مُطرنا بنَوْء كذا.
وفي البخاري عنه ﷺ يقول الله تعالى: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ، فَأَما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بالكَواكِب. وأما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فهو كافِرُ بِي، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ» «٣». فمن نسب الأمطار إلى الأنواء، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله، فقد كفر، ومن اعتقد أن الله خالقها، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها، لم يكفر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق، فجعلها في سماء الدنيا، في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم. ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» «٤». والله تعالى أعلم.
الإشارة: الكون كله، من جهة حسه الظاهر، ظل آفل، وضباب حائل، لا وجود له من ذاته، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية. فنسبة الكائنات، من بحر المعاني الأزلية، كنسبة ظلال الأشجار في البحار، فظلال

(١) الآية ٣٢ من هذه السورة.
(٢) الآية ٥٢.
(٣) أخرجه البخاري فى (الاستسقاء، باب قول الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ح ١٠٣٨) ومسلم فى (الإيمان، باب كفر من قال: مطرنا بالنوء، ١/ ٨٣، ح ١٢٥)، عن زيد بن خالد الجهني.
(٤) ذكره بلفظه البغوي فى تفسيره (٦/ ٨٩) وعزاه لابن إسحاق، وابن جريج، ومقاتل، وبلغوا به ابن مسعود يرفعه. وأخرج الحاكم في المستدرك (التفسير ٢/ ٤٠٣)، عن ابن عباس: «ما من عام، أمطر من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء، وتلا هذه الآية. يعنى: قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي على شرط الشيخين. [.....]


الصفحة التالية
Icon