يقول الحق جلّ جلاله: فَأَتْبَعُوهُمْ أي: فأتبع فرعونُ وقومُه بني إسرائيل، أي: لحقوا بهم، وقرئ بشد التاء، على الأصل، مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس، أي: طلوعها، فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي:
تقابلا، بحيث يرى كلُّ فريقٍ صاحبَه، أي: بنو إسرائيل والقبط، قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي: قرب أن يلحقنا عدونا، وأمامنا البحر، قالَ موسى عليه السلام ثقة بوعد ربه: كَلَّا ارتدعوا عن سوء الظن بالله، فلن يُدرككم أبداً، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: سيهديني طريق النجاة منهم.
رُوِي أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي بموج مثل الجبال، فقال يُوشع عليه السلام: يا كليم الله، أين أُمرتَ، فقد غَشِيَنَا فرعونُ، والبحرُ أمامنا؟ قال عليه السّلام: هاهنا، فخاض يُوشع الماء، وضرب موسى بعصاه البحر، فكان ما كان، وقال الذي كان يكتم إيمانه: يا مكلم الله أين أُمرتَ؟ قال: هاهنا. فكبح فرسَه بلجامه، ثم أقحمه البحر، فرسب في الماء، وذهب القومُ يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع؟ فأوحى الله إليه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فضربه، فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه، لم يبتلَّ لِبْدُه ولا سَرْجه «١».
وقال محمد بن حمزة: لما انتهى موسى إلى البحر، دعا، فقال: يا من كان قبل كل شيء، والمكوّن لكلّ شيء، والكائن بعد كلِّ شيء، اجعل لنا مخرجاً، فأوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر «٢»، وذلك قوله تعالى:
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ أي: القلزم، أو النيل، فَانْفَلَقَ أي: فضرب فانفلق وانشقَّ، فصار اثني عشر فرقاً، على عدد الأسباط. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي: جزء من الماء كَالطَّوْدِ: كالجبل المنطاد في السماء الْعَظِيمِ، وبين تلك الجبال من الماء مسالك، بأن صار الماء مكفوفاً كالجامد، وما بينها يَبَس، فدخل كل سبط في شعْبٍ منها.
وَأَزْلَفْنا أي: قَرَّبْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي: فرعون وقومه، حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ من الغرق بحفظ البحر على تلك الهيئة، حتى عبروه، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بإطباقه عليهم. قال النسفي: وفيه إبطالُ القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث، فإنهم اجتمعوا في الهلاك، على اختلاف طوالعهم. رُوي أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون، فكان يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم، ويستقبل القبط فيقول: رويدكم، ليلحَق آخركم «٣». هـ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً أي: في جميع ما فصّل مما صدر عن موسى عليه السلام، وما ظهر على يديه من المعجزات القاهرة، وفيما فعل فرعونُ وقومه من الأفعال والأقوال، وما فُعل بهم من العذاب والنكال، لعبرة عظيمة، لا تكاد تُوصف، موجبة لأن يعتبر المعتبرون، ويقيسوا شأن النبي ﷺ بشأن موسى عليه السلام، وحال أنفسهم
(٢) عزاه ابن كثير فى تفسيره (٣/ ٣٣٦) لابن أبى حاتم، عن عبد الله بن سلام.
(٣) عزاه فى الدر المنثور (٥/ ١٦٣- ٩٦٤) لابن عبد الحكم وعبد بن حميد، عن مجاهد.