قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فإنّا لن نرعوي عما نحن عليه، ولا نقبل كلامك ودعوتك، وعظت أو سكت. ولم يقل: أم لم تعظ لرؤوس الآي. إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بضم اللام «١»، أي:
ما هذا الذي نحن عليه من ألاَّ بعث ولا حساب، إلا عادة الأولين وطبيعتهم واعتقادهم، أو: ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة إلا عادة قديمة، لم يزل الناس عليها، ولا شيء بعدها، أو: ما هذا الذي أنكرت علينا من البنيان والبطش، إلا عادة مَنْ قَبْلَنَا، فنحن نقتدي بهم، وما نُعَذَّبُ على ذلك. وبسكون اللام، أي: ما هذا الذي خوفتنا به إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ أي: اختلاقهم وكذبهم، أو: ما خَلْقُنا هذا إلا كخلْقهم، نحيا كما حيوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه من الأعمال.
فَكَذَّبُوهُ أي: أصروا على تكذيبه، فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب ذلك بريح صَرْصَرٍ، تقدم في الأعراف كيفيته «٢»، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي: قوم هود مُؤْمِنِينَ ما أسلم معه ثلاثمائة ألف...
وأهلك باقيهم. قاله المحشي الفاسي. وقيل: وما أَكْثَرُ قَوْمِكَ بمؤمنين بهذا، على أن كانَ: صلة. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ العزيز بالانتقام من أعدائه، الرحيم بالانتصار لأوليائه.
الإشارة: أنكر. هود عليه السلام على قومه أمرين مذمومين، وهما من صفة أهل البُعد عن الله الأول: التطاول في البنيان، والزيادة على الحاجة، وهي ما يُكن من البرد، ويقي من الحر، من غير تمويه ولا تزويق، والزيادةُ على الحاجة في البنيان من علامة الرغبة في الدنيا، وهو من شأن الجهال رعاء الشاه، كما في الحديث، وفي خبر آخر:
«إذا علا العبد البناء فوق ستة أذْرُعٍ ناداه ملك: إلى أين يا أفْسَقَ الفاسِقينَ؟» «٣».
والثاني: التجبر على عباد الله، والعنف معهم، من غير رحمة ولا رقة، وهو من قساوة القلب، والقلب القاسي بعيد من الله، وفي الخبر عن عيسى عليه السلام: (لا تُكثِرُوا الكلام بغير ذكر الله، فتقسو قلوبكم فإن القلبَ القاسِيَ بعيدٌ من الله، ولكن لا تشعرون). وفي الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم: «لا تنظُرُوا إلى عيوب الناس كأنكم أربابٌ، وانظروا إلى عيوبكم كأنكم عَبِيدٌ، فإنما الناس مُبْتَلى ومُعَافىً، فارحموا أهل البلاء وسلوا الله العافية» «٤». وبالله التوفيق،
راجع إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٣١٨).
(٢) راجع تفسير الآية ٧٢ من سورة الأعراف.
(٣) ذكره المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح ٢٨٠٣) بلفظ: «إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع، نودى يا أفسق الفاسقين إلى أين» ؟
وعزاه لابن أبى الدنيا موقوفا على عمارة بن عامر. وقال المنذرى: ورفعه بعضهم، ولا يصح. وانظر فتح الباري (١١/ ٩٢).
(٤) هذا بقية الخبر السابق عن سيدنا عيسى عليه السلام. وأخرجه مالك فى الموطأ (٢/ ٩٨٦) بلاغا. ولم أقف عليه حديثا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.