فلفَّتْه في خرقة، ووضعته في تنور مسجور، ولم تعلم ما تصنع لِما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً، فخرجوا، وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً. فلما ألح فرعون في طلب الولدان، أوحى الله إليها بإلقائه في اليمِّ، فألقته في اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر.
رُوي أنها لفته في ثيابه، وجعلت له تابوتاً من خشب، وقيل: من بردى، وسدت عليه بقفل، وأسلمته ثقة بالله وانتظاراً لوعده سبحانه. قال ابن مخلص: ألقته في البحر بالغداة، فرده إليها قبل الظهر. حُكي أن فرعون كانت له بنتٌ برصاء، أعيت الأطباء، فقال الأطباء والسحرة: لا تبرأ إلا من قِبل البحر، يؤخذ منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه وتلطخ به برصها، فتبرأ، فقعد فرعون على شفير النيل، ومعه آسية امرأته، فإذا بالتابوت يلعب به الموج، فأخِذ له، ففتحوه، فلم يطيقوا، فدنت آسية، فرأت في وجه التابوت نوراً لم يره غيرُها، لِلذي أراد الله أن يكرمها، ففتحه، فإذا الصبي بين عينيه نور، وقد جعل الله رزقه في إبهامه، يمصه لبناً، فأحبته آسية وفرعون، فلطخت بنت فرعون برصها فبرئت، فقبَّلته وضمته إلى صدرها. فقال بعض القواد من قوم فرعون: نظن هذا المولود الذي نحذر منه، فهمّ فرعون بقتله- والله غالب على أمره- فقالت: آسية: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ.. الآية «١».
وهذا معنى قوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أخذه. قال الزجّاج: وكان فرعون من أهل فارس، من إصْطَخْر.
والالتقاط: وجدان الشيء من غير طلب ولا إرادة، ومنه: اللُّقَطَةُ، لما وُجد ضالاً. وقوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي: ليصير الأمر إلى ذلك، لا أنهم أخذوه لهذا، فاللام للصيرورة كقولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب.
وقال صاحب الكشاف: هي لام «كي» التي معناها التعليل، كقولك: جئت لتكرمني. ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعلَ لأجله. هـ. وتسمى بالاستعارة التبعية.
وفي «الحَزَن» لغتان الفتح والضم، كالعدم والعدم.
إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ، أي: مذنبين، فعاقبهم الله تعالى بأن ربَّى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديهم. أو: كانوا خاطئين في كل شيء، فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ، لمّا هم فرعون بقتله- لقول القواد: هو الذي نحذر: هو قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، فقال فرعون: لكِ، لا لي. قال صلى الله عليه وسلم: «لو قال مثل ما قالت لهداه الله مثل ما هداها» «٢»، وهذا على سبيل الفرض، أي: لو كان غير مطبوع عليه الكفر لقال مثل قولها. ثم قالت: لا تَقْتُلُوهُ، خاطبته خطاب الملوك، أو خاطبت

(١) انظر تفسير الطبري (٢٠/ ٣٢) والبغوي (٦/ ١٩٢). [.....]
(٢) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (٢/ ٨٩٧) للنسائى- فى الكبرى فى التفسير- من حديث ابن عباس- رضى الله عنه.


الصفحة التالية
Icon