فمن شاهد حبيبه كاد أن يبدي به، ويبوح بسره فرحاً واغتباطاً به، لولا أن الله يربط على قلبه، ليكون من الثابتين الراسخين في العلم به، وإن أبدى سر الحبيب سلط عليه سيف الشريعة، وبالله التوفيق.
ثم ذكر رجوع موسى إلى أمه، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
قلت: المراضع: جمع مُرضِع، وهي المرأة التي ترضع، أو: مَرْضَع- بالفتح-: موضع الرضاع، وهو الثدي.
و (لا تحزن) : معطوف على (تَقَرَ).
يقول الحق جلّ جلاله: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي: تحريم منع، لا تحريم شرع، أي: منعناه أن يرضع ثَدْياً غَيْرَ ثدي أمه. وكان لا يقبل ثدي مرضع حتى أهمهم ذلك. مِنْ قَبْلُ أي: من قبل قَصَصِها أثره، أو: من قبل أن نرده إلى أمه. فَقالَتْ أخته. وقد دخلت داره بين المراضع، ورأته لا يقبل ثدياً: هَلْ أَدُلُّكُمْ أرشدكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ يحفظون موسى لَكُمْ، وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في إرضاعه وتربيته. والنصح: إخلاص العمل من شائبة الفساد. رُوي أنها لَمّا قالت: وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام، فهو الذي نحذر، فقالت: إنما أردتُ: وهُمْ للملك ناصحون.
فانطلقت إلى أمها بأمرهم، فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يُعلله شفقة عليه، وهو يبكي يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها، فقال لها فرعون: ومن أنتِ منه، فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟
فقالت: إني امرأة طيبة الريح، لا أُوتَى بصبي إلا قَبِلَني. فدفعه إليها، وأجرى عليها مؤنة الرضاع. قيل: ديناراً في اليوم، وذهبت به إلى بيتها، وأنجز الله لها وعده في الرد، فعندها ثبت واستقر في علمها أنه سيكون نبياً. وذلك قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بولدها، وَلا تَحْزَنَ لفراقه، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، أي:
وليثبت علمها مشاهدة، كما ثبت علماً.