ولما قال تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ذكر من متّعه بها وغرته، فقال:
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧)
قلت: «قارون» : غير مصروف للعجمة والتعريف، ولو كان «فاعولاً» من قرنت الشيء، لا نصرف لخروجه عن العجمة. إِذْ قالَ: ظرف لبَغَى، أي: طغى حين وُعِظ، ولم يقبل ما وُعظ به، أو: يتعلق بمقدر، أي: أظهر التفاخر بالمال حين قال له قومه: لا تفرح. و «ما» : موصولة، و «إنَّ مفاتحه» : صلته، ولذلك كسرت.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان إسرائيلياً، ابن عم لموسى وابن خالته، فهو قارون بن يصهر بن قَاهَث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهَث. وكان يسمى «المنور» لحُسن صورته «١»، وكان آمن بموسى، وكان أحفظ الناس للتوراة، ولكنه نافق كما نافق السامري. فَبَغى عَلَيْهِمْ، من البغي، أي: الظلم: قيل: ملَّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. أو: من البغي، أي: الكبر، أي: تكبر عليهم بكثرة ماله وولده، وزاد عليهم في الثياب شبراً، فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده.
وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما الذي إِنَّ مَفاتِحَهُ جمع مِفتح، بمعنى المقَلد، أي: إن مقاليده لَتَنُوأُ أي: تثقل بِالْعُصْبَةِ، الباء للتعدية، يقال: ناء به الحمل: أثقله حتى أماله. والعصبة: الجماعة الكثيرة، وكانت مفاتح خزائنه وقرَ ستين بغلاً، لكل خزانة مفتاح، ولا يزيد المفتاح على إصبع. وكانت من جلود، أي: مغاليقها.
وقيل: معنى تنوء: تنهض بِتَكَلُّفِ، ويكون حينئذٍ في الكلام قلب إذ العصبة هي التي تنوء بالمفاتح، لا العكس، قيل: وسميت أمواله كنوزاً لأنه كان لا يؤدى زكاتها، وبسبب ذلك عادى موسى أول عداوته.
إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ لا تبطر بكثرة المال فرَح إعجاب لأنه يقود إلى الطغيان. أو: لا تفرح بالدنيا إذ لا يفرح بها إلا من لا عقل له، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ: البطرين المفتخرين بالمال، أو: الفرحين بزخارف الدنيا، من حيث حصول حظوظهم وشهواتهم فيها. قال البيضاوي: الفرح بالدنيا مذموم مطلقاً لأنه نتيجة حبها

(١) انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٣٩٨- ٣٩٩).


الصفحة التالية
Icon