يقول الحق جلّ جلاله: فَآمَنَ لإبراهيم، أي: انقاد لَهُ لُوطٌ، وكان ابنَ أخيه، وأول من آمن به حين رأى النار لم تحرقه. وَقالَ إبراهيم: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي بالهجرة، وهو الشام، فخرج من «كوثى»، وهي من سواد الكوفة، إلى حرّان، ثم منها إلى فلسطين «١»، وهي من برية الشام، ونزل لوط بسدوم، ومِنْ ثَمَّ قالوا: لكل نبي هجرة، ولإبراهيم هجرتان. وكان معه، في هجرته، لوط وسارة زوجته.
وقيل: القائل: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي هو لوط، فأول من هاجر من الأنبياء إبراهيم ولوط. وذكر البيهقي: إن أول من هاجر منا في الإسلام بأهله: عثمان. ورفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. هـ. يعني: الهجرة إلى الحبشة. وكانت- فيما ذكر الواقدي- سنة خمس من البعثة، وأما الهجرة إلى المدينة ففي البخاري عن البراء: أولُ من قَدِمَ المدينة من الصحابة مهاجراً، مُصعبُ بن عُمير، وابن أم مكتوم، ثم جاء عمَّارُ، وبلال، وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي ﷺ «٢»، .
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعنى من أعدائى، الْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلا بما هو خير لي.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولداً، وَيَعْقُوبَ وَلَدَ وَلَدٍ، ولم يذكر إسماعيل لشهرته، أو: لأن إسحاق ولد بعد اليأس من عجوز عاقر، فَعَظُمَتْ المِنَّةُ به. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ أي: في ذرية إبراهيم، فإنه شجرة الأنبياء، وَالْكِتابَ يريد به الجنسَ ليتناول التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا أي: الثناء الحسن، والصلاة عليه آخر الدهر، ومحبة أهل الملل له، أو: هو بقاء ضيافته عند قبره، وليس ذلك لغيره، أو: المال الحلال، واللفظ عام. وفيه دليل على أنَّ الله تعالى قد يعجل لأوليائه بعض الأجر في الدنيا، ولا يخل بعلو منصبهم. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لحضرتنا، والسكنى في جوارنا. أسكننا الله معهم في فسيح الجنان. آمين.
الإشارة: الهجرة سُنَّة الخواص، وهي على قسمين: هجرة حسية، وهجرة معنوية، فالحسية هي هجرة العبد من وطن تكثر فيه الغفلة والعوائق عن الله، أو الإذاية والإنكار، إلى وطن يجد فيه اليقظة وقلة العوائق. والهجرة المعنوية: هي هجرة القلب من وطن المعصية إلى وطن التوبة، ومن وطن الغفلة إلى وطن اليقظة، ومن وطن الحرص إلى وطن الزهد والقناعة، ومن وطن الحظوظ والشهوات إلى وطن العفة والحرية، ومن وطن الشواغل إلى وطن التفرغ، ومن وطن رؤية الحس إلى رؤية المعاني، وهذه نهاية الهجرة.
(٢) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار، باب مقدم النبي ﷺ وأصحابه المدينة، ح ٣٩٢٥) من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه.