الخلق على الاعتراف بربوبيته، ومن لازم ذلك توحيده، وإن لم يُوَفِّقُوا لذلك كُلُّهم، بل وَحِّدَه بعضُهم، وأشرك بعضهم، مع اتفاق الكل على ربوبيته ضَرُورَة أن الكلَّ يشعر بقاهر له مدبر. قال في الحاشية: والحاصل: أنه تعالى فطر الكل في ابتداء النشأة، على الاعتراف بربوبيته، ولكن كتب منهم السعداء موحدين، وكتب الأشقياء مشركين، مع اعتراف الجميع بربوبيته، ولم يوفق الأشقياء لكون الربوبية تستلزم الوحدانية، فأشركوا، فناقضوا لازم قولهم. هـ.
وهذا معنى قوله تعالى: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، أي: خلقهم في أصل نشأتهم عليها، لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي: ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تُغير. وقال الزجاج: معناه: لا تبديل لدين الله، ويدل عليه قوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: المستقيم، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حقيقة ذلك. حال كونكم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي: راجعين إليه، فهو حال من ضمير: الزموا. وقوله: وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: عطف على الزموا. أو: على (فأقم) لأن الأمر له- عليه الصلاة والسلام- أمرٌ لأمته، فكأنه قال: فأقيموا وجوهكم، منيبين إليه، وَاتَّقُوهُ أي: خافوا عقوبته، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: أَتْقِنُوهَا وأدّوها في وقتها، وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ممن يشرك به غيره في العبادة.
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ: بدل من «المشركين» بإعادة الجار، أي: لا تكونوا من الذين جعلوا دينهم أدياناً مختلفة باختلاف ما يعبدونه لاختلاف أهوائهم. وقرأ الأَخَوَان: (فارقوا) أي: تركوا دين الإسلام الذي أُمروا به، وَكانُوا شِيَعاً أي: فرقاً، كل فرقة تشايع إمامها الذي أضلها، أي: تشيعه، وتقوي سواده، كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون، ظناً بأنه الحق، ثم يبدو لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لم يكونوا يحتسبون. والعياذ بالله.
الإشارة: الفطرة التي فَطَر الله الأرواحَ عليها هى معرفة العيان لأنها كلها كانت عارفة بالله لصفائها ولطافتها، فما عاقها عن تلك المعرفة إلا كَثَافَةُ الأبدان، والاشتغالُ بحظوظها وهواها، حتى نسيت تلك المعرفة. وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه «١» :
وَلَمْ تَزَلْ كُلُّ نُفُوسٍ الأَحْيَا | لأمَةً درَّاكة للأشيَا |
وَإِنَّمَا تَعُوقُها الأبدَان | وَالأَنْفُسُ النُّزَّعُ والشَّيطَان |
فَكُلُّ مَنْ أذاقهم جهادَه | أظهرَ لِلْقَاعِدِ خَرقَ العادة |