أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجّة على عبادة أصنامهم، فَهُوَ يَتَكَلَّمُ، وتكلمه مجاز، كما تقول: كتابه ناطق بكذا، وهذا مما نطق به القرآن، ومعناه: الشهادة، كأنه قال: يشهد بصحة ما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ، فما:
مصدرية، أي: بصحة كونهم بالله يشركون، أو: موصولة، أي: بالأمر الذي بسببه يشركون.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي: نعمة من مطر، أو: سعة رزق، أو: صحة، فَرِحُوا بِها فرح بَطَرَ وافتخار وغفلة. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بلاء من جدب، أو ضيق، أو مرض، بِما بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي، أي: بشؤمها، إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ييأسون من رحمة الله، وفرجِهِ بعد عسره. يقال:
قَنِطَ يَقْنَطُ، كفرح يفرح، وكعلم.
الإشارة: الواجب على المؤمنين أن يتخلقوا بضد ما تخلق به الكافرون فإذا مسهم ضر أو شدة، توجهوا إلى الله، إما بالتضرع والابتهال عبودية، منتظرين ما يفعل الله، وإما بالصبر، والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار.
فإذا جاء الفرج والنعمة شكروا الله وحمدوه، ونسبوا الفرج إليه وحده، فإن كان وقع منهم سبب شرعي لم يلتفتوا إليه قط إذ لا تأثير له أصلاً، وإنما الفرج عنده لا به، فلا يقولوا: فلان ولا فلانة، وإنما الفاعل هُوَ الله الواحد القهار.
وهذا الشرك الخفي مما ابتلى به كثير من الناس، علماء وصالحين، وخصوصاً منهم من يتعاطى كتب الفلسفة، كالأطباء وغيرهم، إذا أصابهم شيء فزعوا، فإذا فَرَّجَ عنهم قالوا: فلان داوانا، وفلان فرَّج عنا، والدواء الفلاني هو شفاني، فتعالى الله عما يشركون. فليشدّ العبدُ يده على التوحيد، ولا يرى في الوجود إلا الفرد الصمد، الفعّال لما يريد.
ومن أوصاف أهل الغفلة: أنهم، إذا أصابتهم نعمة، فرحوا وافتخروا بها، وإذا أصابتهم شدة قنطوا وأيسوا من روح الله، والواجب: ألا يفرح بما هو عارض فانٍ، ولا ييأس من روح الله عند الشدة، بل ينتظر من الله الفرج، فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، إن مع العسر يسرا. قال تعالى: مَآ أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.. «١» الآية.
وبالله التوفيق.
ثم برهن على توالى النعم والمحن على العبد، مادام فى دار الدنيا، فقال: