وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ أي: عُمْي القلوب. وقرأ حمزة: «وما أنت تهدي العمي»، عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي:
لا تقدر أن تهدي الأعمى عن طريقه إذا ضلّ عنه، بالإشارة إليه، إِنْ ما تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لأوامر الله ونواهيه.
الإشارة: من أصول طريقة التصوف: الرجوع إلى الله في السراء والضراء، فالرجوع في السراء: بالحمد والشكر، وفي الضراء: بالرضا والصبر. قال القشيري: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى.. إلخ: مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم، وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماء الحقائق، فَسَمْعُ الظواهر لا يفيد إلا تأكيد الحُجَّة، وكما لم يُسمع الصمّ الدعاء، فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْيَ عن ضلالتهم. هـ.
ولما ذكر شيئا من دلائل الأكوان، ذكر شيئا من دلائل الأنفس، فقال:
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)
قلت: «الله» : مبتدأ، والموصول: خبره.
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الذي يستحق ان يُعبد وحده هو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي:
ابتدأكم ضُعفاء، وجعل الضعف أساس أمركم، أو: خلقكم من أصل ضعيف، وهو النطفة كقوله: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «١»، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً، يعني: حال الشباب إلى بلوغ الأشد، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً، يعني: حال الشيخوخة والهرم.
وقد ورد في الشيب ما يسلي عن روعة هجومه، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة» «٢»، ولما رأى إبراهيم عليه السلام الشيب فى لحيته قال: يا رب، ما هذا؟ قال: هذا وقار. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: «يا داود، إني لأنظر الشيخ الكبير، مساء وصباحاً، فأقول له: عبدي، كَبِرَ سِنُّكَ، ورق جلدك، ووهن عظمك، وحان قدومك عليّ، فاستحي مني، فإني أستحيي أن أُعذب شَيْبَةًً بالنار». ومن المستلحات،
(٢) أخرجه الترمذي فى (فضائل الجهاد، باب ما جاء فى فضل من شاب شيبة فى سبيل الله، ح ١٦٣٥) وأخرجه، مطولا، النسائي فى (الجهاد، باب من رمى بسهم فى سبيل اله عز وجل ٦/ ٢٦) من حديث عمرو بن عبسة.