يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي: ينقد إليه بكليته، وينقطع إليه بجميع شراشره، بأن فوض أمره إليه، وأقبل بكُلِّيَّتِهِ عليه، وَهُوَ مُحْسِنٌ في أعماله. قال القشيري: من أَسْلَمَ نَفْسُه، وأخلص في الله قَصْدَهُ، فقد استمسك بالعروة الوثقى. هـ. فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص، فلذلك قال: وَهُوَ مُحْسِنٌ. قاله المحشي. وقلت: وفيه نظر فإن الحق تعالى إنما عبَّر بالإسلام لا بالاستسلام، وإنما المعنى: أسلم وجهه في الباطن، وهو محسن بالعمل في الظاهر، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، أي: تعلق بأوثق ما يتعلق به فالعروة:
ما يستمسك به. والوثقى: تأنيث الأوثق. مثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل، فاحتاط لنفسه، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين، مأمونٍ انقطاعُهُ. قال الهروي: أي: تمسك بالعقد الوثيق. وقال الأزهري: أصله: من عروة الكلأ، وهو: ما له أصل ثابت في الأرض، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل في الأرض. ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به، ويُلْجأُ إليه. هـ.
وهو إشارة لكون التوحيد سبباً وأصلاً، والآخِذُ به، مُّتصلاً بالله، لا يخشى انقطاعاً ولا هلاكاً، بخلاف الشرك، فإنه على الضد، كما يرشد إليه قوله تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ.. «١» الآية. وقوله تعالى:
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ... الآية «٢».
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي: صائرة إليه، فيُجازى عليها.
وَمَنْ كَفَرَ ولم يسلم وجهه لله، فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ فلا يهمك شأنه، فَسَيَقْدِمُ علينا ونجازيه، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، أي: فنعاقبهم على أعمالهم، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، أي: عالم بحقائق الصدور، وما فيها، فيجازى على حسبها، فضلاً عما في الظواهر، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، أي: نمتعهم زماناً قليلاً بدنياهم، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ شديد. شبَّه إلزامهم التعذيب، وإرهاقهم إليه، باضطرار المضطر إلى الشيء. والغِلظ: مستعار من الأجرام الغليظة، والمراد: الشدة والثَّقَلُ على المُعَذِّبِ. عائذاً بالله من موجبات غضبه.
الإشارة: ومن يَنْقَدْ بكليته إلى مولاه، وغاب عن كل ما سواه، وهو من أهل مقام الإحسان، بأن أشرقت عليه شمس العيان، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبداً. ومن أمارات الانقياد: ترك التدبير والاختيار، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فيوصل من يشاء برحمته، ويقطع من يشاء بعدله. ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه فلا يحزنك، أيها العارف،
(٢) الآية ٣١ من سورة الحج.