ثم خطّأ مَن اتبعه بأن غرضه أن يورد شيعَته موارد الهلاك، بقوله: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ، فهو تقرير لعداوته، وبيان لغرضه في دعوى شيعته إلى اتباع الهوى، والركون إلى الدنيا، أي: إنما يدعوهم إلى الهوى، ليكونوا من أهل النار.
ثم بيَّن مآل مَن اتبعه ومَن عاداه، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي: فمَن أجابه إلى ما دعي فله عذاب شديد لأنه صار من حزبه وأتباعه، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ولم يجيبوه، ولم يصيروا من حزبه، بل عادوه، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لكبر جهاده ودوامه.
الإشارة: وَعْد الله هنا عام، وكله حق، واجب الوقوع، لا يتخلّف، فيصدق بوعد الرزق، وكفاية مَن انقطع إليه عن الخلق، لقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «١» وتولى مَن أصلح حالَه لقوله: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ «٢»، ويصدق بإثابة المطيع، وعتاب العاصي، أو: حلمه عنه، وغير ذلك من المواعد كلها، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق، وخوف الخلق، والتشمير في الطاعة، والفرار من المعصية، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ... الخ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان، فاشتغلوا بعداوته ومحاربته، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من سر الخطاب: إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ، وأنا لكم حبيب، فاشْتَغلُوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم: كيف صُنعك مع الشيطان؟ فقال: نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب، أو قطع الإهاب، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله، والفناء فيه، ولكن الدواء هو الغيبة عنها، والاشتغال بالله دائماً، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها، دُقّه، بعكس مرادها، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدى رضي الله عنه: «انس نفسك بالله، واعتمد على فضل الله، وامتثل شيئاً ما، وينوب الله». «٣» وفي الحكم العطائية: «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». وقال أيضاً: «وحرّك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه». وقال: «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه، غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليك» «٤».

(١) من الآية ٣ من سورة الطلاق.
(٢) من الآية ١٩٦ من سورة الأعراف.
(٣) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ ٢٣، حكمة/ ٢٣٦).
(٤) (ص/ ٣١، حكمة ١٣٠).


الصفحة التالية
Icon