الإشارة: تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيراً من ذلك، وهي جنة المعارف المعجلة، تجري من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب، ويجعل لك قصوراً تنزل فيها، ثم ترحل عنها، وهي منازل السائرين ومقامات المقربين، إلى أن تسكن في محل الشهود والعيان، وهو العكوف في حضرة الإحسان. بل كذَّبوا بالساعة، أي: من تنكب عن هذا الخير الجسيم، إنما سببه أنه فعل فِعْل من يُكذب بالساعة من الانهماك في الدنيا، والاشتغال بها عن زاد الآخرة. وأَعتدنا لمن فعل ذلك سعيراً، أي: إحراقاً للقلب بالتعب، والحرص، والجزع، والهلع، والإقبال على الدنيا، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها تَغَيُّظاً وزفيراً غيظاً على طلابها، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها، وإذا ألقوا في أشغالها، وضاق عليهم الزمان فى إدراكها، دعَوا بالويل والثبور، وذلك عند معاينة أعلام الموت، والرحيل إلى القبور، ولا ينفعهم ذلك. قل: أذلك خير أم جنة الخلد؟، وهي جنة المعارف، التي وُعد المتقون لكل ما سوى الله، كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصَبْرهم، ومصيراً يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم. لهم فيها ما يشاؤون لكونهم حينئذٍ أمرهم بأمر الله، كان على ربك وعدا مسئولا، أي: مطلوباً للعارفين والسائرين. وبالله التوفيق.
ثم شرح ما يلقى أهل التكذيب من الهول والفظاعة، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
قلت: «اتخذ» قد يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً «١»، وقد يتعدى إلى مفعولين، كقوله:
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «٢»، فقرأ الجمهور: (أن نَتَّخِذَ) بالبناء لفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر بالبناء للمفعول «٣». فالقراءة الأولى على تعديته لواحد، والثانية على تعديته لاثنين. فالأول: الضمير في (نتخذ)، والثاني: (من أولياء). و (من) : للتبعيض، أي: ما ينبغي لنا أن نتخذ بعضَ أولياءٍ من دونك لأن «من» لا تزاد في المفعول الثاني، بل في الأول، تقول: ما اتخذت من أحد وليّاً، ولا تقول: ما اتخذت أحداً من ولي. وأنكر القراءة أبو عمرُو بن العلاء وغيره، وهو محجوج لأن قراءة أبي جعفر من المتواتر.
(٢) من الآية ١٢٥ من سورة النساء.
(٣) أي: (نتّخذ) بضم النون وفتح الخاء.