عليه، ولكني خُصصت بأمر دونكم، كما قال إبراهيم:

يَآ أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ «١» إلخ كلامه، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ أن أنقاد وأُخلص ديني لِرَبِّ الْعالَمِينَ.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي: أصلكم، وأنتم في ضمنه، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي: ثم خلقكم خلقاً تفصيليّاً من نطفة تُمنى، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي: أطفالاً، واقتصر على الواحدة لأن المرادَ الجنس، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ: متعلق بمحذوف، أي: ثم يُبقيكم لتبلغوا أشدَّكم، وكذلك ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، وقيل: عطف على محذوف، عِلة ليُخرجكم، ف «يخرجكم» من عطف علة على أخرى، كأنه قيل: ثم يخرجكم طفلاً لتكبروا شيئاً فشيئاً، ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل، ثم لتكونوا شيوخاً، بكسر الشين وضمها «٢» جمع شيخ، وقرىء «شيخاً» كقوله: «طفلاً».
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ عبارة تجري في الأدراج المذكورة، فمِن الناس مَن يموت قبل أن يُخرج طفلاً، وآخرون قبل الأشدّ، وآخرون قبل الشيخوخة. وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أي: وفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مُسمى، أي: ليبلغ كل واحد منكم أجلاً مسمى لا يتعداه، وهو أجل موته، وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولكي تعقلوا ما في ذلك من العِبَر، والحجج، وفنون الحِكَم فإنَّ ذلك التدريج البديع يقضي بالقدر السابق، ونفوذ القدرة القاهرة لبُعد ذلك التفاوت، والاختلاف العظيم، عن الطبيعة والعلة، وإنما موجب ذلك سبق الاختيار والمشيئة الأزلية، ولذلك عقّبه بقوله:
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ دفعاً لما قد يُتوهم- من كونه لم يذكر الفاعل في قوله: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ- أن ذلك من فساد مزاجه، أو قتل غيره قبل أجله، فرفع ذلك الإبهام بقوله: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ لا غيره، أي: يحيي الأموات، ويميت الأحياء، أو: يفعل الإحياء والإماتة، فَإِذا قَضى أَمْراً أي: أراد أمراً من الأمور، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير توقُّف على شيء من الأشياء أصلاً، وهو تمثيل لتأثير قدرته تعالى في الأشياء عند تعلُّق إرادته بها، وتصوير سرعة ترتُّب المكونات على تكوينه، من غير أن يكون هناك أمر ولا مأمور.
الإشارة: إذا دخل المريد مقامَ التجريد، طالباً لأسرار التوحيد والتفريد، وطلبه العامة بالرجوع للأسباب قبل التمكين، يقول:
(إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) الآية. والبينات التي جاءته من ربه، هو اليقين
(١) الآية ٤٣ من سورة مريم.
(٢) ضم شين «شيوخا» نافع، وأبو عمرو، وهشام، وحفص، وأبو جعفر، وقرأ الباقون بكسر الشين. انظر الإتحاف (٢/ ٤٣٩). [.....]


الصفحة التالية
Icon