يقول الحق جلّ جلاله: حم يا محمد هذا تَنْزِيلٌ، قال القشيري: أي: بحقي وحياتي ومجدي في ذاتي وصفاتي، هذا تنزيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأنه نزل للمصالح الدينية والدنيوية، واقع بمقتضى الرحمة الربانية، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «١»، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ مُيزت وجُعلت تفاصيل في أساليب مختلفة، ومعانٍ متغايرة من أحكام، وتوحيد، وقصص، ومواعظ، ووعد، ووعيد وغير ذلك، قُرْآناً عَرَبِيًّا أي: أعني قرآناً بلسان العرب كائناً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ معانيه، ويتدبّرون في آياته لكونه على لسانهم، أو: لأهل العلم والنظر لأنهم المنتفعون به.
بَشِيراً وَنَذِيراً بشيراً لأهل الطاعة، ونذيراً لأهل المعصية، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن الإيمان به والتدبير فى معاينه، مع كونه على لغتهم، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تفكُّر وتأمُّل، حتى يفهموا جلالة قدره فيؤمنوا به.
وَقالُوا للرسول- عليه الصلاة والسّلام- عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي: أغطية متكاثفة، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ صمم وثِقَل يمنعنا من استماع قولك، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ غليظ، وستر مانع يمنعنا من التواصل إليك. و (من) للدلالة على أن الحجاب مبتدى منهم ومنه بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة، ولم يبق ثمَّ فراغ أصلاً. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله، ومج أسماعهم له، كأنَّ بها صمماً وثِقلاً منعهم من موافقتهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قالوا:
فَاعْمَلْ على دينك وإبطال ديننا، إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا، لا نفارقه أبداً.
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، هذا تلقين للجواب عنه، أي: لستُ من جنسٍ مباينٍ لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان، كما ينبئ عنه قوله: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ، بل إنَّما أنا بَشرٌ مثلُكُم، مأمور بما أُمِرتم به من التوحيد، حيث أخبرنا جميعاً بأن إلهنا واحد، فالخطاب في «إلهكم» محكي منتظم للكل، لا أنه خطاب منه- عليه الصلاة والسّلام- للكفرة. وقيل: لمّا دعاهم إلى الإيمان، قالوا:
إنا نراك مثلنا، تأكل وتشرب، فلو كنتَ رسولاً لاستغنيت عن ذلك، فأنزل: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ... الآية فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ بالتوحيد وإخلاص العبادة، غير ذاهبين يميناً وشمالاً، ولا ملتفتين إلى ما يُسوّل لكم الشيطانُ من عبادة الأصنام. ، قال تعالى: وَاسْتَغْفِرُوهُ مما كنتم عليه من سوء العقيدة. والفاء لترتيب ما قبلها من إيحاء التوحيد على ما بعدها من الاستقامة، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وهو ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد.