يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ «١» من كفار المتقدمين والمتأخرين إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يُضمون ويُساقون إلى النار، ويُحبس أولهم على أخرهم، فيستوقف سوابقهم حتى تلحق بهم تواليهم، وهي عبارةٌ عن كثرة أهل النار، وأصله: من وزَعته، أي: كففته. حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي: حضروها، و «حتى» : غاية للحشر، أو: ليوزعون، و «ما» : مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور، فبمجرد حضورهم شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ أي: بَشَراتهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا، من فنون الكفر والمعاصي، بأن ينطقها الله تعالى، ويظهر عليها آثار ما اقترفوا بها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن المراد بشهادة الجلود: شهادة الفروج، كقول الشاعر:
أوَ سالم مَنْ قد تث... نَّى جِلْدُه وابْيَضَّ رَأسُه «٢»
فكنَّى بجلده عن فرحه، وهو الأنسب لتخصيص السؤال بها في قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا، فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقُبحاً، وأجلب للحزن والعقوبة، مما تشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطها. روي: أن العبد يقول يوم القيامة: يا رب، أليس قد وعدتني ألا تظلمني؟ فيقول تعالى:
فإن لك ذلك، قال: فإني لا أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي، قال تعالى: أوَ ليس كفى بي شهيداً، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيُختم على فِيهِ، وتتكلم أركانُه بما كان يعمل، فيقول لهن: بُعْداً لكُنَّ وسُحْقاً، عنكُنَّ كنتُ أُجادل» «٣».
قالُوا في جوابهم: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ من الحيوانات، وأقدرنا على بيان الواقع، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، وما كتمناها. أو: ما نطقنا باختيارنا، بل انتقنا الله الذي أنطق كل شيء. وقيل:
سألوها سؤال تعجُّب، فالمعنى حينئذ: وليس نطقنا بعجب من قدرة الله- تعالى- الذي أنطق كل شيء، وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فإن مَن قدر على خلقكم أول مرة، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه،
(٢) جاء البيت فى تفسير القرطبي (٧/ ٥٩٧٠) مسبوقا ببيت آخر هو:
المرء يسعى للسلا... مة والسلامة حسبه
وعزاه القرطبي لعامر بن جؤية.
(٣) أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق، ٤/ ٢٢٨١، ح ٢٩٦٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.