ويستر المثالب «١»، أو: يعفو عمَّن يهفو، أو: مَن يعطي العبد فوق الكفاية، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: الظاهر حمل العباد على من اصطفاه، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق، ومن ذلك: حمايتهم من الدنيا، ومما يطغى من الرزق، وعليه ينزل قوله: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ. هـ. أي: يرزق على حسب مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة. وفي الحديث: «إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك» «٢».
وأما قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «٣» فهو وعد لجميع الخلق، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا، فلا منافاة بينهما، خلافاً لابن جزي «٤» لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها «٥». انظر الحاشية.
وَهُوَ الْقَوِيُّ الباهر القدرة، الغالب على كل شيء، الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يُغْلَب.
الإشارة: الميزان هو العقل إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع، كالذهب، والإكسير، والفضة، والطيب الرفيع، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة، دون الخشينة، كميزان العطار وشبهه، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة، كميزان الغزالين والحاكة، وبعضها لا يصلح إلا للخشين، كالفحم وشبه، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين، فالأول عقول العارفين، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد، لا يصلح لغيرها، والثاني للعباد، والزهّاد، والعلماء الصالحين، والثالث للمتجمدين من العلماء، والرابع لعامة المؤمنين، والخامس للفجار والكفار، وفيهم نزل: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها... الآية، وما قبله هو قوله:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها.
(٢) أخرجه الديلمي (الفردوس ٥/ ٢٥٠ ح ٨١٠٠) والبيهقي فى الأسماء والصفات (ص ١٢١)، وأخرجه مطولا البغوي فى التفسير (٧/ ١٩٤- ١٩٥). وعزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٧٠٤- ٧٠٥) لابن أبى الدنيا فى كتاب الأولياء، والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول، وابن مردويه، وأبى نعيم فى الحلية (٨/ ٣١٨)، وابن عساكر فى تاريخه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه. وانظر كشف الخفاء (١٧٣٧).
(٣) من الآية ٦ من سورة هود.
(٤) قال ابن جزى- رحمه الله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يعنى الرّزق الزائد على المضمون لكلّ حيوان فى قوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي: ما تقوم به الحياة، فإن هذا على العموم لكلّ حيوان طول عمره، ولزائد خاص بمن شاء الله.
(٥) وجدت على هامش النّسخة الأساسية مايلى: «الحق ما قاله ابن جزى، وأن المشيئة متعلقة بالتوسعة المسماة فى العرف رزقا أيضا، لا بأصل الرّزق، ويدل على ذلك قوله تعالى عقب هذا مباشرة: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ... الآية، ولا مجملة فهى بمعنى قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ...... فهذا قوله تعالى: وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ فالجمع لا بد منه، والمشيئة متعلقة بوقت الجمع. انتهى.