أنه أصلح ذات يوم طعاماً كثيراً، ودعا نفراً يسيراً، منهم الأوزاعي والثوري، فقال له الثوري: أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال: ليس في الطعام إسراف، إنما الإسراف في الثياب والأثاث، ودفع أيضاً إلى بعض إخوانه دراهم، فقال: خذ لنا بهذه زُبداً وعسلاً وخبزاً حُوَّاري «١»، فقال: يا أبا إسحاق: هذا كله؟ قال: ويحك إذا وجدنا أَكَلْنا أكلَ الرجال، وإذا عُدمنا صبرنا صبر الرجال، وإن معروفاً الكرخي كان يُهدي له طيبات الطعام، فيأكل، فيقال له: إن أخاك بشرا كان لا يأكل من هذا، فيقول: أخي بِشْر قبضه الورعْ، وأنا بسطتني المعرفة، وإنما أنا ضيف في دار مولاي، إذا أطعمني أكلت، وإذا جوّعني صبرت، مالى وللاعتراض والتمييز. هـ.
والحاصل: أن الناس أقسام ثلاثة: عوام، لا همة لهم في السير، وإنما قنعوا أن يكونوا من عامة أهل اليمين.
فهؤلاء يأخذون كل ما أباحته الشريعة، إذ لا سير لهم حتى يخافوا من تخلُّفهم، وخواص، نهضت همتُهم إلى الله، وراموا الوصول إليه، وهم في السير لم يتحقق وصولهم، أو من العُبَّاد والزهّاد، يخافون إن تناولوا المستلذات تفتَّرت عزائمهم، فهؤلاء يتأكد في حقهم ترك الحظوظ والشهوات، والقسم الثالث: خواص الخواص، قد تحقق وصولهم، ورسخت أقدامهم في المعرفة، فهؤلاء لا كلام معهم، ولا ميزان عليهم.
قال في الإحياء، بعد كلام: وأ كل الشهوات لا يُسلَّم إلا لمَن نظر من مشكاة الولاية والنبوة، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس من طاعة الهوى والعادة بالكلية، حتى يكون أكلُه إذا أكل بنية، كما يكون إمساكه بنية، فيكون عاملاً له في إفطاره وإمساكه. ثم قال: وينبغي أن يتعلّم الحزم من عُمر، فإنه كان يرى النبي ﷺ يُحب العسل ويأكله، ثم لم يقس نفسه عليه، بل لمّا عُرض عليه ماء مبرّد بالعسل جعل يُدير الإناء في كفه، ويقول: أَشربُها فتذهب حلاوتها وتبقى تباعتُها، اعزلوا عني حسابها، وتركها، رضي الله عنه «٢».
ثم ذكر وبال مَن تمتع بدنياه، وأعرض عن أخراه، فقال:
[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
(٢) ذكره بنحوه ابن الجوزي فى مناقب أمير المؤمنين (ص ١٦٤) عن ثابت.