ثم حمَلَ فقاتل، فقَتل عدداً كثيرا، ثم رجع إلى مصافه، فتكالب عليه العدو، فحملَ ثالثة، وأنشأ يقول:
يَا لُعبةَ الْخُلْدِ قفى ثمّ اسمعي | مالك قَاتَلْنَا فَكُفّي وَارْجِعي |
ثُمَّ ارْجِعِي إلى الْجِنَانِ وأَسْرعي | لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي لا تطمعى |
قوله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير، الداعين إلى الله، الذين يسعون في أظهار الدين، وإرشاد عباد الله إلى محبة الله وطاعته. وفي الحديث عنه- صلّى الله عليه وسلم:
«والذي نفس محمد بيده، لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم، إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة». وقال أيضاً: «الخَلقُ عِيَالُ اللَّهِ، وأحبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لعياله» «٢» وأعظم النفع: إرشادهم إلى الله، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية.
وقال الورتجبي: نُصرةُ العبد لله: أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه، فإنهم أعداؤه، فإذا خاصمها يُقويه الله وينصره عليهم، بأن يدفع شرهم عنه، ويجعله مستقيماً في طاعة الله، ويجازيه بكشف جماله، حتى يَثْبُتَ في مقام العبودية، وانكشاف أنوار الربوبية. هـ.
قال القشيري: ونصرةُ الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعدائه. ثم قال في قوله تعالى: وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ هو إدامة التوفيق، لئلا ينهزم من صَوْلة أعداء الدين، ولا يَضعُف قلبُه في معاداتهم، ولا ينكسر باطنُه ثقةً بالله في إعزازِ دينه. هـ. ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى الله، الناصرين لدينه، وهم المنتقدون عليهم، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي: خيبةً لهم، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، فلا يتوصلون بها إلى معرفته، لكونها معلولة.
ثم أمر بالتفكر والنّظر لأنه أقرب الطرق إلى التخلص من غوائل الأعداء، فقال:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١٠ الى ١٢]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)
(١) أخرجه أبو نعيم فى الحلية (١٠/ ١٦٥- ١٦٦).
(٢) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٧٤٤٥) والطبراني فى الكبير (ح ١٠٠٣٣) وأبو يعلى فى مسنده (٦/ رقم ٣٣١٥ و ٣٣٧٠) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٧٤٤٨) وأبو نعيم فى الحلية (٢/ ١٠٢) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٢) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٧٤٤٥) والطبراني فى الكبير (ح ١٠٠٣٣) وأبو يعلى فى مسنده (٦/ رقم ٣٣١٥ و ٣٣٧٠) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٧٤٤٨) وأبو نعيم فى الحلية (٢/ ١٠٢) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.