فكان متواضعاً سهلاً ليناً، كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «١» وعلى المؤمنين، فأخبر عنهم بقوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «٢» الآية، «وألزمهم كلمة التقوى»، «لا إله إلا الله» لأنها تهذِّب الأخلاق، وتُخرج ما في القلب من الأمراض والنفاق لأن النفي: تنزيه وتخلية، والإثبات: نور وتحلية، فلا يزال النفي يخرج مِنَ القلب ما فيه هي الظلمة والمساوئ، حتى يتطهّر ويتصف بكمال المحاسن.
قال في نوادر الأصول، لمّا تكلم على وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى: هو «لا إله إلا الله»، وجه تسميتها بذلك: أنه اتقى بها ونفى ما أحدث من الشرك، حميةً للتوحيد وعصبيةً وغيرةً، اقتضاها نورُ التوحيد والمحبة، فنفى القلبُ كلَّ رب ادعى العبادُ ربوبيته، وولِهت قلوبهم إليه، فابتدأ هذا القلب- الذي وصفنا- بالنفي لأرباب الأرض، ثم سَما عالياً حتى انتهى إلى الرب الأعلى، فوقف عنده، وتذلّل وخشع له، واطمأن وولِه إليه. وقال لنبيه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «٣» أي: إن هذه أرباب متفرقون، والرب الله الواحد القهار، فهداه إلى الرب الأعلى، وقال: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى «٤». ثم قال: ألزم قلوبَهم هذه الكلمة بنور المحبة، كما قال: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ «٥»، فبحلاوة الحب، وزينة البهاء، صارت الكلمة لازمةً لقلوبهم.
وأما قوله: وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها فإنما صاروا كذلك لأن الله كان ولا شيء، فخلق المقادير، وخلق الخلق في ظلمة، ثم رشّ عليهم من نوره، فمَن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضلّ، فقد علم مَن يخطئه ممن يصيبه. ثم ذكر أحاديث، من ذلك: حديث [ابن عمرو] «٦» :«إن الله خلق خلقه، ثم جعلهم في ظلمة، ثم أخذ من نوره ما شاء، فألقاه عليهم، فأصاب النور مَن شاء أن يُصيبه، وأخطأ مَن شاء أن يخطئه... » الحديث «٧». ثم قال بعد كلام طويل: ثم لمّا نفخ الروح في آدم أخرج نَسَمَ بنيه، أهل اليمين، من كتفه الأيمن في صفاء وتلألؤ، وأصحاب الشمال [كالحمَّة] «٨» سُود من كتفه الأيسر، والسابقون أمام الفريقين، المقربون، وهم الرسل والأنبياء والأولياء،
(٢) من الآية ٢٩ من سورة الفتح.
(٣) الآية الأولى من سورة الأعلى.
(٤) من الآية ٤٢ من سورة النّجم.
(٥) من الآية ٧ من سورة الحجرات.
(٦) فى الأصول [ابن عمر] والمثبت هو الصحيح، فالحديث مروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(٧) أخرجه بنحوه الترمذي وحسّنه فى (الإيمان، باب افتراق هذه الأمة، ح ٢٦٤٢) وأحمد فى المسند (ح ٦٨٥٤) ومطولا (ح ٦٦٤٤) والحاكم (١/ ٣٠- ٣١) «وصحّحه ووافقه الذهبي» وكذا صحّحه ابن حبان (ص ٤٤٩) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال الهيثمي فى المجمع (٧/ ١٩٣- ١٩٤) :«رواه أحمد بإسنادين، والبزار والطبراني، ورجال أحد إسنادى أحمد ثقات».
(٨) فى الأصول [كالحمية] والمثبت من نوادر الأصول، وهو الصحيح.
والحم: الأسود من كلّ شىء، والاسم: الحمّة. انظر اللسان (حمم ٢/ ١٠٠٩).