والتعبير بالمضارع للدلالة على أنّ عَنَتَهم إنما يلزم في استمرار طاعته لهم في كل ما يعرض من الأمور، وأما طاعته في بعض الأمور استئلافاً لهم، فلا. انظر أبا السعود. وهذا يدل على أنَّ بعض المؤمنين زيّن لرسول الله ﷺ الإيقاع ببني المصطلق تصديقاً لقول الوليد، وأنَّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويتحرّجون الوقوعَ بهم تأنياً وتثُبتاً في الأمر، وهم الذين استثناهم الله بقوله:
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ، وأسنده إلى الكل تنبيهاً على أن أكثرهم تحرّجوا الوقوعَ بهم وتأنّوا، وقيل: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، وهو تجديدٌ للخطاب وتوجيه إلى بعضهم بطريق الاستدراك، بياناً لِبراءَتهم عن أوصاف الأولين وإحماداً لأفعالهم، أي: ولكنه- تعالى- جعل الإيمان محبوباً لديكم وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ حتى رسخ فيها، ولذ كل صدر منكم ما يليق به من التثبُّت والتحرُّج، وحاصل الآية على هذا: واعلموا ان فيكم رسول الله، فلا تُقِرُّون معه على خطأ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم، ولكن الله حبب إلى بعضكم الإيمان، فلا يأمر إلا بما هو صواب من التأنِّي وعدم العجلة.
قلت: والأحسن في معنى الاستدراك: أنَّ التقدير: لو يطعيكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم، ولكن الله لا يُقره على طاعتكم بل ينزل عليه الوحي بما فيه صلاحُكم وراحتكُم لأنَّ الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم، فلا يسلك بكم إلى ما يليق بشأنكم من الحِفظ والعصمة.
ثم قال: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ولذلك تحرّجتم عمّا لا يليق مما لا يخير فيه مما يؤدي إلى عَنَتِكم، قال ابن عرفة: العطف في هذه الآية تَدَلِّي فالكفر أشدُّها، والفسوق دونه، والعصيان أخفّ لصدقه على ترك المندوبات، حسبما نقل ذلك البغداديون وحمَلوا عليه، ومَن لم يُجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم. هـ.
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي: أولئك المستثنون، أو: المتَّصِفون بالإيمان، المزيّن في قلوبهم، هم السالكون على طريق السّوى، الموصل إلى الحق، أي: أصابوا طريقَ الحق، ولم يَميلوا عن الاستقامة. والرشدُ: الاستقامةُ على طريق الحق مع تصلُّبٍ فيه، من: الرشادة، وهي الصخرة الصماء. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أي: إفضالاً من الله وإنعاماً عليهم مفعولٌ من أجله، أي: حبَّب وكرّه للفضل والنعمة عليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم، فيعلم أحوالَ المؤمنين وما بينهم من التفاضل، حَكِيمٌ يفعل ما يفعل لحكمة بالغة.
الإشارة: إن جاءكم خاطرُ سوء بنبأ سوءٍ فتبيّنوا وتثبّتوا، ولا تُبادروا بإظهاره، خشية أن تُصيبوا قوماً بجهالة، فتظنُّوا بهم السوء، وتقعوا في الغيبة، فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين، فالمنافق قلبه على طرَف لسانه، إذا خطر فيه شيء نطق به، فهذا هالك، والمؤمن لسانه من وراء قلبه، إذا خطر شيءٌ نظر فيه، ووَزَنه بميزان الشرع، فإن كان


الصفحة التالية
Icon