إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين، فيُجازيهم أحسنَ الجزاء، والقَسط بالفتح: الجَور، وبالكسر: العدلُ، والفعل من الأول: قَسط فهو قاسط: جارَ، ومن الثاني: أقسط فهو مقسط: عَدل، وهمزتُه للسلب، أي: أزال القسط، أي: الجور.
والآية نزلت في قتالٍ حدث بين الأوس والخزرج، وذلك أن رسول الله ﷺ ذهب يعود سعدَ بنَ عُبادة، فمرّ بمجلسٍ من الأنصار، فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين، فوقف صلّى الله عليه وسلم على المجلس، ووعظ وذكَّر، فقال عبد الله ابن أُبي: يا هذا، لا تؤذنا في مجالسنا، واجلس في موضعك، فمَن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بنُ رواحة: بل أغثنا يا رسول الله وذكِّرنا، فارتفعت أصواتهما، وتضاربوا بالنعال، فنزلت الآية، وقيل غير ذلك «١».
وفي الآية دليل على أنّ الباغي لا يخرج ببغيه عن الإيمان، وأنه يجب نُصرة المظلوم، وعلى فضيلة الإصلاح بين الناس.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي: منتسبون إلى أصل واحدٍ، وهو الإيمان المُوجب للحياة الأبدية، فيجب الاجتهاد في التآلف بينهما لتحقُّق الأخوة. والفاء في قوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ للإيذان بأنّ الأخوة الدينية موجبة للإصلاح. ووضع المظهر مقامَ المضمر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأَولى لتضاعف الفتنة والفساد فيه. وقيل: المراد بالأخَويْن: الأوس والخزرج. وقرأ يعقوب: «إخوتكم» بالجمع. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما تأتون وتذرون، التي من جملتها: الإصلاحُ بين الناس لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ راجين أن تُرحموا على تقواكم، لأن التقوى تحملكم على التواصل والائتلاف، وهو سبب نزول الرحمة.
الإشارة: النفسُ الطبيعية والروح متقابلان، والحرب بينهما سِجال، فالنفس تريد السقوط إلى أرض الحظوظ والبقاء مع عوائدها، والروح تريد العروج إلى سماء المعارف وحضرة الأسرار، وبينما اتصال والتصاقٌ، فإن غلَبت النفسُ هبطت بالروح إلى الحضيض الأسفل، ومنعتها من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وإن غلبت الروح، عرجت بالنفس إلى أعلى عليين، بعد تزكيتها وتصفيتها، فتكسوها حُلةَ الروحانية، وينكشِف لها من العلوم والأسرار ما كان للروح، ولكلٍّ جندٌ تقابل به، فيقال من طريق الإشارة: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصْلِحوا بينهما، بأن تؤخذ

(١) والذي فى الصحيح: ما أخرجه البخاري فى (الصلح، باب ما جاء فى الإصلاح بين النّاس، ح ٢٦٩١) ومسلم فى (الجهاد والسير، باب فى دعاء النبي ﷺ وصبره على أذى المنافقين ح ١٧٩٩) عن أنس بن مالك قال: قيل للنبى صلّى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي؟ قال: فانطلق إليه، وركب حمارا، وانطلق المسلمون، وهى أرض سبخة، فلما أتاه النبي ﷺ قال: إليك عنى، فو الله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجلٌ من الأنصار: والله لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه. قال: فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدى وبالنعال، قال: فبلغت أنها نزلت فيهم:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.


الصفحة التالية
Icon