فقيل: المراد إذلال جهنم، فإنها إذا بلغت في الطغيان، وطلبت المزيد، أذلّها الله، كوضعها تحت القدم، وليس المراد حقيقة القدم، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء ظرفاً للأمثال، ولا تريد أعيانها، كقولهم: رغم أنفه، وسقط في يده. هـ. قلت: مَن دخل بحار الأحدية لم يصعب عليه حلّ أمثال هذه الشُبّه، فإن تجليات الحق لا تنحصر، فيتجلّى سبحانه كيف شاء، وبما شاء، ولا حصر ولا تحييز، ولا يفهم هذه إلا أهل الفناء والبقاء بصحبة الرجال.
ثم قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وهو شروع في بيان أحوال المؤمنين بعد النفخ ومجيء النفوس إلى موقف الحساب. وتقديم الكفرة في أمثال هذا إما لتقديم الترهيب على الترغيب، أو لكثرة أهل الكفر، فإن المؤمنين بينهم كالشعرة البيضاء في جلدٍ أسود «١»، أي: قُّربت الجنةُ للمتقين الكفر والمعاصي، بحيث يشاهدونها من الموقف، ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن، فيبتهجون بأنهم محشورون إليها، فائزون بها، ويأتي في الإشارة بقية بيان، إن شاء الله. وقوله: غَيْرَ بَعِيدٍ تأكيد للإزلاف، أي: مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر، الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، أو لتأوّل الجنة بالبستان.
هذا ما تُوعَدُونَ أي: هذا الثواب، أو الإزلاف، ما كنتم توعدون به في الدنيا، وهو حاصل لِكُلِّ أَوَّابٍ أي: رجاع إلى الله تعالى حَفِيظٍ لأوامر الله، أو لما استودعه الله من حقوقه، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ:
بدل من «أواب» أو مبتدأ، خبره: أدخلوها، على تقدير: يقال لهم: ادخلوها لأن «من» في معنى الجمع، والخشية:
انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة أو التقصير أو الهيبة. وقوله تعالى: (بالغيب) حال من فاعل «خشي»، أو من مفعوله، أو صفة لمصدره، أي: خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه وهو غائب عنه، وخشي الرحمن وهو غائب عن الأعين في رداء الكبرياء، لا تراه الأعين الحسية الحادثة. والتعرُّض لعنوان الرحمن للثناء البليغ على الخاشي، حيث خشيَه مع علمه بسعة رحمته، فلم يصدهم علمهم بسعة رحمته عن خوفه تعالى، أو: للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته. وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ راجع إلى الله، أو سريرةٍ مَرضيةٍ، وعقيدةٍ صحيحة.
يُقال لهم: ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي: سالمين من زوال النعم وحلول النقم، أو: ملتبسين بسلام من الله تعالى وملائكته عليكم، ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ، الإشارة إلى الزمان الممتد الواقع في بعض منه ما ذكر من الأحوال، أي:
«أتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهل الجنة» قلنا: نعم، قال «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قلنا: نعم، قال: «أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة» قلنا: نعم، قال: «والذي نفسى محمد بيده، إنى لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلدٍ الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء فى جلد الثور الأحمر».