قال القشيري: ارجعوا إلى الله، والإشارة إلى حالتين، إما رغبة في شيء، أو رهبة من شيء، أو حالي خوف ورجاء، أو طلب نفع أو دفع ضر، وينبغي أن يفر من الجهل إلى العلم، ومن الهوى إلى التقوى، ومن الشك إلى اليقين، ومن الشيطان إلى الله، ومِن فعله الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته، ومن وصفه الذي هو سخطه، إلى وصفه الذي هو رحمته، ومن نفسه، حيث قال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ «١» إلى نفسه، حيث قال: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ. هـ. ونقل الورتجبي عن الخراز «٢»، فقال: أظهر معنى الربوبية والوحدانية، بأن خلق الأزواج «٣» فتخلُص له الفردانية، فلما تبين أن أشكال الأشياء تواقع «٤» علة الفناء دعا العباد إلى نفسه لأنه الباقي، وغيره فانٍ، بقوله:
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي: ففروا مِن وجودكم، ومِن الأشياء كلها، إلى الله بنعت الشوق والمحبة والتجريد عما سواه. هـ.
ولمّا أمرهم بالفرار إليه، أعلم أنه ما خلقهم إلا لذلك، فقال:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي: إلا لنأمرهم بالعبادة والخضوع لربوبيتي، لا لنستعين بهم على شأن من شئونى، كما هي عادة السادات في كسب العبيد، ليستعينوا بهم على أمر الرزق والمعاش، ويدلّ على هذا التأويل: قوله تعالى ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ... الخ، قال ابن المنير: إلا لأمرهم بعبادته، لا لطلب رزقٍ لأنفسهم، ولا إطعام لي، كما هو حال السادات من الخلق مع عبيدهم، بل الله هو الذي يرزق، وإنما على عباده العبادة له لأنهم مُكلَّفون، ابتلاءً وامتحاناً، أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها، لقوله:
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «٥». هـ. وقيل المعنى: ما خلقهم إلا مستعدين للعبادة، متمكنين منها أتم استعداد، وأكمل تمكُّن، فمنهم مَن أطاع، ومنهم مَن كفر، وهو كقولهم: البقر مخلوقة للحرث، أي: قابلة لذلك، وقد يكون فيها مَن لا يحرث. والحاصل: أنه لا يلزم من كون الشيء مُعدّاً لشيءٍ أن يقع منه جميع ذلك.
أو: ما خلقتهم إلا ليتذللوا لي، ولقدرتي، وإن لم يكن ذلك على قواعد شرع، وهذا عام في الكل، طوعاً أو كرهاً إذ كل ما خلق مُنقاد لقدرته وقهريته، عابد له بهذا المعنى. وفي البخاري: وما خلقت أهل السعادة من
(٢) فى الورتجبي: الحراز.
(٣) فى الورتجبي: الأرواح.
(٤) فى الورتجبي: مواضع.
(٥) من الآية ١٧٩ من سورة الأعراف.