يقول الحق جلّ جلاله: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي: بالكأس أو: في شأن الخدمة كلها غِلْمانٌ لَهُمْ أي:
مماليك مخصصون بهم، قيل: أولاد الكفار الذين ماتوا صِغاراً، وقيل: تُوجدهم القدرةُ من الغيب، وفي الحديث: «إن أدنى أهل الجنة منزلة مَن يُنادِي الخادِمَ مِن خدامه، فيجيبه ألفٌ، كلهم يُناديه: لبيك لبيك» «١». قلت: هذا في مقام أهل اليمين، ولما المقربون فإذا اهتمُّوا بشيء حضر، بغلامٍ أو بغير غلام، من غير احتياج إلى نداء. وقال ابن عمر رضي الله عنه: (ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه) «٢».
كَأَنَّهُمْ من بياضهم وصفائهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف لأنه حينئذ يكون أصفى وأبهى، أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثِمن الغالي القيمة. قيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم» «٣».
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله، وما استحق به نيل ما عند الله، ف كل بعض سائل ومسئول. قالُوا أي: المسئولون في جوابهم، وهم كل واحد منهم في الحقيقة: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا أي: في الدنيا مُشْفِقِينَ أرِقَّاء القلوب من خشية الله، أو: خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان، أو: من ردّ الحسنات والأخذ بالسيئات، أو: واجلين من العاقبة، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة والرحمة وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ وهي الريح الحارة، التي تدخل المسامّ، فسمّيت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة. إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي: من قبل لقاء الله والمصير إليه- يعنون: في الدنيا، نَدْعُوهُ نعبده ولا نعبد غيره، أو نسأله الوقاية، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ المحسن الرَّحِيمُ الكثير الرحمة، الذي إذا عُبد أثاب، وإذا سُئل أجاب، وقرأ نافع والكسائي بالفتح «٤»، أي: لأنه، أو بأنه.
الإشارة: ويطوف على قلوبهم علومٌ وهبية، وحِكَمٌ غيبية، تزهو على اليواقيت المكنونة. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: كيف سلكوا طريق الوصول، وكيف كانت مجاهدة كل واحد ومسيره إلى الله، إما تحدُّثاً بالنعم، أو:
للاقتداء بهم، وفي الحِكَم: «عبارتهم إما لفيضان وَجدٍ، أو: لهداية مريد» «٥». إنَّا كنا قبلُ الوصول في أهلنا، أي: في عالم الإنسانية مشفقين من الانقطاع والرجوع، خائفين من سَموم صفات البهيمية والشيطانية، والشهوات الدنيوية، فإنها تهب بسموم قهر الحق، قهر بها جُلّ عباده فانقطعوا عنه، فمنَّ الله علينا، ووصلنا بما منه إلينا، لا بما منا إليه،

(١) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص ١٦٠) للثعلبى، عن وكيع عن هشام عن أبيه، عن السيدة عائشة- رضي الله عنها.
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧/ ٣٩٠).
(٣) أخرجه عبد الرّزّاق فى التفسير (٢/ ٢٤٨) والطبري (٢٧/ ٢٩) عن قتادة، مرسلا.
(٤) فى «ندعوه أنه» على التعليل، وقرأ الباقون «إنه» بالكسر على الاستئناف. انظر الإتحاف (٢/ ٤٩٧).
(٥) حكمة رقم ١٨٦ انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ ٣٦).


الصفحة التالية
Icon