ثم قال: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي: يعرض عليه، ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه، ثُمَّ يُجْزاهُ أي: يجزى العبد سعيه، يقال: جزاه اللهُ عملَه، وجزاه عليه، بحذف الجار وإيصال الفعل، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسّره بقوله: الْجَزاءَ الْأَوْفى أو: أبدله منه، أي: الجزاء الأكمل بحيث يزيده ولا ينقصه.
الإشارة: أفرأيتَ الذي تولى عن طريق السلوك، بعد أن أعطى نفسه وفلْسَه، وتوجه إلى حضرة مولاه، ثم منَّته نفسُه، وغرّته أنه يصل بلا عطاء ولا مجاهدة، فقطع ذلك واشتغل بنفسه، أو غرّه أحدٌ حتى ردَّه، وضمن له الوصول، بلا ذلك، أعنده عِلمُ الغيب حتى عَلِمَ أنه يصل بلا واسطة ولا مجاهدة؟ فهو يرى عاقبة ما هو سائر إليه.
وتصدُقُ الإشارة بمن صحب شيخا، وأعطاه بعض ماله أو نفسه، ثم رجع ومال إلى غيره، فلا يأتي منه شيء، أعنده علم الغيب، وأنّ فتحه على يد ذلك الشخص، فهو يرى ما فيه صلاحه وفساده؟ وهذا إن كان شيخه أهلاً للتربية، وإلاَّ فلا. أم لم يُنبأ هذا المنقطِع بما في صُحف موسى وإبراهيم، أنه لا يتحمّل أحدٌ عن أحدٍ مجاهدة النفوس ورياضتها؟ وأن ليس للإنسان من لذة الشهود والعيان إلا ما سعى فيه بالمجاهدة، وبذل النفس والفلس، وأنَّ سعيه سوف يرى؟ أي: يَظهر أثره من الأخلاق الحسنة، والرزانة والطمأنينة، وبهجة المحبين، وسيما العارفين.
وقسَّم القشيري السعي على أربعة أقسام الأول: السعي في تزكية النفس وتطهيرها، ونتيجته: النهوض للعمل الصالح، الذي يستوجب صاحبه نعيمَ الجنان. الثاني: السعي في تصفية القلب من صَداء ظلمات البشرية، وغطاء عورات الطبيعية، ونتيجته: صحته من الأمراض القلبية، كحب الدنيا والرئاسة والحسد، وغير ذلك، ليتهيأ لدخول الواردات الإلهية. الثالث: السعي في تزكية الروح، بمنعها من طلب الحظوظ الروحانية، كطلب الكرامات، والوقوف مع المقامات، وحلاوة المعاملات، لتتهيأ بذلك للاستشراف على مقام المشاهدات، وحمل أعباء أسرار الذات. الرابع: السعي في تزكية السر بتحليته بالصفات الإلهية، والأخلاق الربانية، ليتحقق بمقام الفناء والبقاء، وهو منتهى السعي وكماله. هـ. بالمعنى.
وإلى هذا الانتهاء أشار تعالى بقوله:
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٤٢ الى ٦٢]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عادا الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)


الصفحة التالية
Icon