أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي: قربت الساعة الموصوفة بالقرب فى قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «١»، وفي ذكرها بعد إنذارهم إشعار بأنَّ تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي: ليس لها نَفْس مبيّنة وقت قيامها إلاّ الله تعالى، وهذا كقوله: لاَّ يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ «٢» أو: ليس لها نفس قادرة على كشف أهوالها إذا وقعت إلا الله تعالى، فيكشفها عمن شاء، ويُعذِّب بها مَن شاء.
ولمَّا استهزؤوا بالقرآن، الناطق بأهوال القيامة، نزل قوله تعالى: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ إنكاراً، وَتَضْحَكُونَ استهزاءً، وَلا تَبْكُونَ خشوعاً، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ غافلون، أو: لاهون لاعبون، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ولا تعبدوا معه غيره، من اللات والعزى ومناة الشعرى، وغيرها من الأصنام، أي: اعبدوا رب الأرباب، وسارعوا له، رجاء في رحمته. والفاء لترتيب الأمر بالسجود على بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء، ووجوب تلقيه بالإيمان والخضوع والخشوع، أي: إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله الذي أنزله واعبدوه.
الإشارة: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى، انتهى سير السائرين إلى الوصول إلى الله، والعكوف في حضرته. ومعنى الوصول إلى الله: العلم بأحدية وجوده، فيمتحي وجود العبد في وجود الرب، وتضمحل الكائنات في وجود المكوّن، فتسقط شفعية الأثر، وتثبت وترية المؤثِّر، كما قال القائل:
وبروْح وراح... عاد شفعي وترى
وقال آخر: فلم يبق إلا الله لم يبق كائن... فما ثم موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان، فما أرى... بعيني إلا عينه إذ أعاين
إلى غير ذلك مما غَنَّوا به من أذواقهم ووجدانهم.
ثم قال تعالى: (وأنه هو أضحك وأبكى) أي: قبض وبسط، أو: أنه أضحك أرواحاً بكشف الحجاب، وأبكى نفوساً بذُل الحجاب، أو: أضحك إذا تجلى بصفة الجمال، وأبكى إذا تجلّى بصفة الجلال، وأنه هو أمات قلوباً بالجهل والغفلة، بمقتضى اسمه القهّار، وأحيا قلوباً بالعلم والمعرفة، بمقتضى اسمه الغفّار، أو: أمات نفوساً عن شهواتها الفانية، وأحيا بسبب ذلك أرواحاً بكمال المعرفة، فاتصفت بالأوصاف الربانية، أو: أمات أرواحاً بغلبة ظلمة النّفس واستيلائها عليها، وأحيا نفوساً باستيلاء الأرواح عليها، وغلبة نورها، فحييت وانقلبت روحاً. وأنه خلق الزوجين، أي: الصنفين الذكر والأنثى، الحس والمعنى، الحقيقية والشريعة، القدرة والحكمة، كما تقدم. وقال القشيري: الروح
(٢) من الآية ١٨٧ من سورة الأعراف.