خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، لَمَّا ذكر ما يتعلق بالعالم العلوي، ذكر ما يتعلق بالعالم السفلي، وترك العاطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على الوحدانية، وبدأ بالإنسان لأنه المقصود الأهم من هذا العالم، ولعَرَاقته في الدلالة على توحيد الحق وباهر قدرته لما فيه من تعاجيب آثار القدرة، وأسرار الحكمة، وأصالته في المعرفة فإن الإنسان بحال نفسه أعرف، والمراد بالنفس: نفس آدم- عليه السلام.
ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها: عطف على محذوف، صفة لنفس، أي: من نفسٍ خلقها ثم جعل منها زوجها، أو:
على معنى: واحدة، أي: نفس وُجدت ثم جعل منها زوجها حواء، وعطفت بثم دلالة على مباينتها له فضلاً ومزية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، مع التراخي في الزمان. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذّر، ثم أخرج منه حوّاء، ففيه ثلاث آيات خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من قصيراه «١»، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما.
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ أي: قضى وجعل، أو: خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام، ثم أنزلها، أو: أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء، كالأمطار، وأشعة الكواكب، كما تقول الفلاسفة. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكراً وأنثى، وهي:
الإبل، والبقر، والضأن، والمعز. فالزوج اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد، ووتر.
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ: استئناف لبيان كيفية خلقهم، وأطواهم المختلفة، الدالة على القدرة القاهرة. وصيغة المضارع للدلالة على التجرُّد. خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ: مصدر مؤكد، أي: يخلقكم فيها خلقاً كائناً من بعد خلق، أي: خلقاً مُدرَّجاً، حيواناً سويّاً، من بعد عظام مكسوة لحماً، من بعد عظام عارية، من بعد مضغة مخلَّقة، من بعد مضغة غير مخلَّقة، من بعد علقة، من بعد نطفة، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، أو: ظلمة الصلب، والبطن، والرحم.
ذلِكُمُ: إشارة إلى الحق تعالى، باعتبار أفعاله المذكورة، وهو مبتدأ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلته في العظمة والكبرياء، أي: ذلكم العظيم الشأن، الذي عددت أفعاله هو اللَّهُ رَبُّكُمْ أي: مربيكم بنعمة الإيجاد على الأطوار المتقدمة، وبنعمة الإمداد بعد نفخ الروح فيه. لَهُ الْمُلْكُ: التصرف التام على الإطلاق في الدارين. لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ: لا متصرف غيره. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ: فكيف تصرفون عن عادته تعالى، مع وفور دواعيها، وانتفاء الصارف عنها بالكلية، إلى عبادة غيره، من غير داع إليها، مع كثرة الصوارف عنها؟ والله تعالى أعلم.