نابعة في ظهرها، فإن الينبوع يطلق على المنبع والنابع. فنصب «ينابيع» على الحال، على القول الثاني، وعلى نزع الخافض، على الأول.
ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ: أصنافه، من بُر وشعير وغيرهما، أو: كيفياته من الألوان، كالصفرة والخضرة والحمرة، والطعوم وغيرهما. وثُمَّ: للتراخي في الرتبة والزمان، وصيغة المضارع: لاستحضار الصورة البديعة، ثُمَّ يَهِيجُ أي: يتم جفافه، ويشرف على أن يثور من منابته، ويستقل على وجه الأرض، ساتراً لها، فَتَراهُ مُصْفَرًّا من بعد خضرته ونَضرته، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فُتاتاً متكسرة، كأن لم يغنَ بالأمس، فمَن قدر على هذا قدر على إنشاء الخلق بعد فنائهم ومجازاتهم.
وقيل: المراد من الآية: تمثيل الحياةِ الدنيا، في سرعة الزوال، وقُرب الاضمحلال، بما ذكر من أحوال الزرع، ترغيباً عن زخارفها وزينتها، وتحذيراً من الاغترار بمَن سُرّ بها، كما في قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ «١»... الآية، وقيل: للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغُرف، بما يشاهد من إنزال المياه من السماء، وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى، وإحكام حكمته ورحمته.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي: ما ذكر تفصيلاً من إنزال الماء وما نشأ عنه. لَذِكْرى: لتذكيراً عظيماً لِأُولِي الْأَلْبابِ: لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الهوى، فيتذكرون بذلك أن الحياةِ الدنيا في سرعة التقضي والانصرام، كما يشاهدونه من حال الحكام كل عام، فلا يغترُّون ببهجتها، ولا يُفتنون بفتنتها. أو: يجزمون بأن مَن قدر على إنزال الماء من السماء، وإجرائه في ينابيع الأرض، قادر على إجراء الأنهار من تحت الغُرف. وأما ما قيل: من أنه استدلال على وجود الصانع فلا يليق لأن هذه الأفعال الجليلة ذُكرت مسندة إلى الله تعالى وإنما يليق الاستدلال بها على وجود الصانع لو ذُكرت غير مسندة إلى مؤثر، فتَعَيّن أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شئونه تعالى وشئون آثاره، كما بيَّن، لا وجوده تعالى. قاله أبو السعود.
الإشارة: قال القشيري: والإشارة في هذا أن الإنسان يكون طفلاً، ثم شابًّا، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم يصير إلى أرذل العمر، ثم إلى آخره يُخترم، ويقال: إن الزرع ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤخذ منه الحَبُّ، الذي هو المقصود منه، كذلك الإنسان مالم [يخل] «٢» من نفسه وحَوْلِه لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ. قلت: يعني أنه ما لم يمحص نفسه، وينهكها في التقرُّب إلى مولاه، لا قيمة له.
(٢) فى القشيري: [يحصل].