في ميادين الغيوب، ويقبضن عنانهن، عكوفاً في الحضرة، وسكوناً في النظرة، ما يُمسِكُهن فيها إلاَّ الرحمن الذي مَنَّ عليهم برحمته، فأسكنهم فيها، إنه بكل شيء بصير، فيُبصر مَن توجه إليه ومَن لا، أمَّنْ هذا الذي هو جند لكم ينصركم على طريق السلوك، ويُبلغكم إلى حضرة مالك المَلوك، من دون الرحمن؟ إنِ الكافرون بهذا إلاّ في غرور، حيث حسبوا أنَّ وصولهم بحسب جهادهم وطاعتهم، أمَّن هذا الذي يرزقكم إمداد قلوبكم من العلوم والمعارف واليقين الكبير، إن أمسك رزقه فلم يتوجه إليكم إلاَّ القليل، بل لجُّوا في عُتو ونفور، أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه، حيث رام سلوك الطريق بلا شيخ ولا دليل عارف، أهدى أمَّنْ يمشي سويًّا سالماً من الانحراف، على صراط مستقيم، تُوصله إلى حضرة العيان، وهو مَن سلك الطريق على يد الخبير، بل مَن سلكه على يد الخبير أهدى وأصوب، قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم دلائل السلوك إلى معرفته، لتستدلوا عليه بالأدلة السمعية والعقلية، ثم تَتَرَقون إلى صريح معرفته، بسلوك الطريق على يد الخبير، قل هو الذي ذرأكم في أرض العبودية، وإليه تُحشرون بشهود عظمة الربوبية.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ويقولون﴾ مِن فرط عتوهم وعنادهم استهزاء: ﴿متى هذا الوعدُ﴾ أي: الحشر الموعود ﴿إن كنتم صادقين﴾ فيما تعدونه من مجيء الساعة؟ والخطاب للرسول ﷺ والمؤمنين المشاركين له عليه السلام في الوعد، وتلاوة الآيات المتضمنة له، وجواب الشرط: محذوف، أي: إن صدقتم فيه فبيَّنوا وقته؟ ﴿قل إِنما العلمُ﴾ أي: العلم بوقته ﴿عند الله﴾ تعالى، لا يطلع عليه غيره ﴿وإِنما أنا نذير مبينٌ﴾ أُنذركم وقوع الموعود لا محالة، وأمّا العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار.
﴿فلما رَأَوه﴾ أي: العذاب الموعود. والفاء فصيحة مُعربة عن تقدير جملة، كأنه قيل: قد أتاهم الموعود فلما رأوه... الخ، نزّل ما سيقع بمنزلة الواقع لتحقق وقوعه، و ﴿زُلفةً﴾ : حال من مفعول " رَأَوه " أي: قريباً منهم، وهو مصدر، أي: ذا زلفة، ﴿سِيئَتْ﴾ أي: تغيرت ﴿وجوهُ الذين كفروا﴾ بأن غشيها الكآبة ورهقها القَترُ والذلة. ووضع الموصول موضع ضميرهم؛ لذمهم بالكفر، وتعليل المساءة به. ﴿وقيل﴾ توبيخاً لهم، وتشديداً لعذابهم: ﴿هذا الذي كنتم به تَدَّعون﴾ ؛ تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه