أقْبَلَ سَيْلٌ جاء من أَمْرِ الله
يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنةِ المُغِلَّهْ
أي: يقْصد قصدها، أي: وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين على صِرامها عند أنفسهم، وقيل: معنى الحرد: الغضب، يقال: حَرِدَ الرجل حَرْداً: غضب، أي: غدوا على غضبٍ على المسكين قادرين على المنع، أو على صِرامها في زعمهم، وقيل: الحرد: اسم للجنة، أي: غدوا على تلك الجنة قادرين على صِرامها عند أنفسهم.
﴿فلما رَأَوها﴾ أي: جنتهم محترقة ﴿قالوا إِنَّا لضالون﴾ أي: ضللنا جنتنا، وما هي بها، لِما رأوا من هلاكها، فلما تأمّلوا وعرفوا أنها هي، قالوا: ﴿بل نحن محرومون﴾ ؛ حُرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، ﴿قال أوسطُهم﴾ أي: أعدلُهم وخيرُهم رأياً، أو: أكبرهم سنًّا: ﴿ألم أقل لكم لولا تُسبِّحون﴾ ؟ تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نياتكم، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله، وتوبوا إليه من هذه الجريمة الخبيثة من فوركم، وسارِعوا إلى حَسْم شرها قبل حلول النقمة، فَعَصوه. وقيل: المراد بالتسبيح: الاستثناء؛ لأنه تعظيم لله تعالى في الجملة؛ لأنَّ الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم، والأول أنسب بقوله: ﴿قالوا سبحان ربنا إِنَّا كنا ظالمين﴾ فيما عزمنا عليه من المنع، أو: في عدم الاستثناء، فتكلّموا بعد نزول العذاب بما كان يدعوهم إلى التكلُّم به قبل نزوله.
﴿
فأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون﴾ أي: يلوم بعضُهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويُحيل كلُّ واحد منهم اللائمة على الآخر، ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله: ﴿قالوا يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين﴾ ؛ متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء حقهم، وتَرْكِ الاستثناء، ﴿عسى ربُّنا أن يُبْدلنا خيراً منها﴾ أي: يعطينا خيراً من جنتنا ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة، ﴿إِنَّا إِلى ربنا راغبون﴾ ؛ طالبون منه الخير، راجون العفو منه. وعن مجاهد: ثابوا فأُبدلوا خيراً منها، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا، فأبدلهم الله جنة تُسمى الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً، وعن أبي خالد اليماني أنه رآها، ورأى كل عنقود منها كالرجُل الأسود القائم، وقد تقدّم أنهم مؤمنون، إمّا من بني إسرائيل أو غيرهم، فلا معنى لمَن توقف في قولهم: ﴿إِنَّا إِلى ربنا راغبون﴾ هل يكون إسلاماً أم لا؟ نعم، قد قيل: إنهم كانوا كفاراً، فيحتمل أن يكون قولهم هذا إسلاماً، أو يكون على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم شدة. قال تعالى: ﴿كذلك العذابُ﴾ أي: مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه في حق أصحاب الجنة هو عذاب الدنيا لمَن تخالف أمرنا، ولم يشكر نِعمنا، ﴿ولَعذابُ الآخرة أكبرُ﴾ ؛ أعظم منه وأشد، ﴿لو كانوا يعلمون﴾ أنه أكبر لا حترزوا عما يؤديهم إليه.
قال الطيبي: قال الإمام ـ أي الفخر ـ: المقصود من القصة أنه تعالى قال: ﴿أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال... ﴾ الخ؛ أي: لأجْل أن أعطاه الله المال والبنين كفر