الطاعات، وترك المخالفات، كالكافرين الذين عُجِّلت طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم قيل لهم بطريق الالتفات؛ لتأكيد الرد والتشديد: ﴿ما لكم كيف تحكمون﴾ هذا الحُكم الأعوج، وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأنَّ أمر الجزاء مُفوض إليكم، تحكمون فيه كيف شئتم! وهو تعجيب واستبعاد وإيذان بأنه لا يصدر عن عاقل. ﴿أم لكم كتاب﴾ نازل من السماء ﴿فيه تدرُسُون﴾ ؛ تقرؤون في ذلك الكتاب، ﴿إنَّ لكم فيه﴾ أي: في ذلك الكتاب ﴿لَمَا تخيَّرون﴾ أي: إن ما تختارونه وتشتهونه حاصل لكم! والأصل: تدرسون أنَّ لكم ما تتخيرون، بفتح " أنّ " لأنه مدروس، لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام في خبره، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس بلفظه، كقوله: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأَخِرِينَ سَلَام عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِين﴾ [الصافات: ٧٨، ٧٩] أي: تركنا عليه السلام على قولٍ. وتخيّر الشيء واختاره: أخذ خيره.
﴿
أم لكم أَيْمَانٌ علينا﴾
أي: عهود مؤكدة بالأيمان ﴿بالغةٌ﴾ ؛ متناهية في التوكيد ﴿إِلى يوم القيامة﴾ متعلق بالمقدّر في ﴿لكم﴾ أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو: بـ " بالغة "، أي: تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه، وافرة لم تبطل منها يمين، إلى أن يحصل المقسَم عليه من التحكيم، ﴿إِنَّ لكم لَمَا تحكمون﴾ به لأنفسكم، وهو جواب القسم، لأنَّ معنى ﴿أم لكم أَيمان علينا﴾ : أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد وقلنا والله إنَّ لكم لَمَا تحكمون ﴿سَلْهُمْ﴾ أي: المشركين، وهو تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله ﷺ بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، أي: سَلْهم مبكتاً لهم: ﴿أَيُّهُم بذلك﴾ الحكم ﴿زعيمٌ﴾ ؛ كفيل بأنه لا بد أن يكون ذلك.
﴿أم لهم شركاءُ﴾ أي: ناس يُشاركونهم في هذا القو، ويذهبون مذهبهم فيه؟ ﴿فليأتوا بشركائهم إِن كانوا صادقين﴾ في دعواهم، إذ لا أقل من التقليد فيه، يعني: أنَّ أحداً لا يسلّم لهم هذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم بعد عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله هذا، وإنما هو اختلاق وأماني من أنفسهم. وقيل: المراد بالشركاء: الأصنام، أي: أم لهم أصنام يعبدونها تضمن لهم ذلك؟ فليحضروها حتى يسمعوا منهم ذلك، وهو تهكُّم به.
واذكر ﴿يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ﴾، وجمهور المفسرين على أن الكشف عن ساق عبارة عن شدة الأمر، وصعوبة الخطب، أي: يوم يشتد الأمر ويصعب، وقيل: ساق الشيء: أصله الذي به قوامه، كساق الشجرة وساق الإنسان، أي: يوم يُكشف عن أصل الأمر، فتظهر حقائق الأمور وأصولها، بحيث تصير عياناً. وتنكيره للتهويل العظيم. قال النسفي: ولا كشف ثمَّ ولا ساق، ولكن كنّى به عن شدة الأمر؛ لأنهم إذا ابتلوا بالشدّة كَشفوا عن الساق، وقال: كشفت الحرب عن ساقها، وهذا كما تقول للشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثَمَّ ولا غل، وإنما هو كناية عن البخل، وأمّا مَن شبّه فلِضيق عِطفه وقلّة نظره في علم


الصفحة التالية
Icon