﴿سنستدرجُهم﴾ ؛ سنُدْنيهم من العذاب درجة درجة، يقال: استدرجه إلى كذا، أي: استنزله إليه درجة بدرجة حتى يورطه فيه، واستدراجه تعالى للعصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلون رزقَ الله ذريعة إلى معاصيه. والجملة استئناف مسوق لبيان التعذيب المستفاد من الأمر إجمالاً في قوله: ﴿فذرني﴾ والضمير لـ " من "، والجمع باعتبار معناها، كما أنَّ الإفراد في " يُكذِّب " باعتبار لفظها، أي: سنسوقهم إلى العذاب ﴿من حيث لا يعلمون﴾ أي: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج، قيل: كلما جدّدوا معصيةً جدّدنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها. قال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت الله تعالى يُنعم على عبد، وهو مقيم على معصية، فاعلم أنه مُستدرج " ثُم تَلا هذه الآية.
﴿وأُمْلِي لهم﴾ ؛ وأمهلهم ليزدادوا إثماً، وهم يظنون أنه لإرادة الخير بهم، ﴿إِنَّ كيدي متينٌ﴾ ؛ قوي شديد، لا يوقف عليه، فسمّى إحسانه وتمكينه كيداً كما سمّاه استدراجاً؛ لكونه في صورة الكيد، حيث كان سبباً للهلاك. والحاصل: أن معنى الكيد والمكر والاستدراج، هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يُسمى الله كائداً وماكراً ومُسْتَدْرِجاً؛ لعدم التوقيف، وأسماؤه تعالى توقيفيه.
﴿أم تسألهم﴾ على تبليغ الرسالة ﴿أجراً﴾ دنيوياً ﴿فهم من مِغْرَمٍ﴾ أي: من أجل غرامة ﴿مثقَلُون﴾ ؛ مكلفون حملاً ثقيلاً، فيعرضون عنك لأجل ما تكلفهم به؟ والاستفهام بمعنى النهي. ﴿أم عندهم الغيب﴾ أي: اللوح المحفوظ، أو علم المغيبات، ﴿فهم يكتبون﴾ منه ما يحكمون به، فيستغنون عن علمه؟
﴿
فاصبرْ لحُكم ربك﴾
أي: ما حكم به، وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم؛ لأنهم وإن أُمهلوا لم يُهمَلوا، ﴿وَلاَ تَكُن كصاحِب الحوت﴾ ؛ يونس عليه السلام في العَجَلة والغضب على القوم حتى ابتلي ببلائه، ﴿إِذ نادَى﴾ في بطن الحوت ﴿وهو مكظوم﴾ مملوء غيظاً. والجملة حال من ضمير " نادى " وعليه يدور النهي، لا على النداءِ؛ فإنه أمر مستحسن، ولذلك لم يذكر المنادَى، و " إذ " منصوب بمضاف محذوف، أي: لا يكن حالك كحاله وقت ندائه، أي: لا يوجد منك ما وُجد منه من الضجر والمغاضبة فتُبتلى ببلائه، ﴿لولا أن تدارَكه نعمةٌ﴾ ؛ رحمة ﴿من ربه﴾ أي: لولا أنَّ الله أنعم عليه بإجابة دعائه، وقبول عذره، أو: لتوفيقه للتوبة وقبولها منه، ﴿لنُبذ بالعراءِ﴾ ؛ بالأرض الخالية من الأشجار ﴿وهو مذموم﴾ ؛ معاتَب بعجلته، لكنه رُحم، فنُبذ غير مذموم، بل مَرْضِي مقبول. ﴿فاجتباه ربُّه﴾ ؛ اصطفاه لرسالته ببركة دعائه وتسبيحه، فأعاد إليه الوحي، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وقيل: استنبأه، وكان لم يُنبأ قبل هذه الواقعة، ﴿فجعله من الصالحين﴾ ؛ من الكاملين في الصلاح، أو: من الأنبياء والمرسَلين. والوجه هو الأول؛ لأنه كان نبياً مرسَلاً قبل، لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إلىَ الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾


الصفحة التالية
Icon