﴿كلاَّ﴾، ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ، وهو دخولهم الجنة بلا إيمان ﴿إِنَّا خلقناهم مما يعلمون﴾، تعليل للردع، أي: إنَّا خلقناهم من نطفةٍ مَذِرة، فلا يستأهل الكرامة إلاَّ مَن تحلّى بالإيمان والطاعة، وكسا لوث بشريته بنور إيمانه، وحلّها بالتقوى، التي بها العز والشرف والارتفاع في أوج القُربى والكرامة التي محلها الجنة، إنما تكون بمخالفة الطبيعة، وغلبة الروح على الطينة الأرضية، والفرض لعدم ذلك منهم، فلا يطمعون في كرامات الروحانية، مع تمحُّض الطينة الجسمانية، فإنه محال بمقتضى الحكمة. قال أبو السعود: وقيل معناه: إنّا خلقناهم من نطفة مذرة، فمن أين يتشرّفون ويدّعون التقدُّم، ويقولون: لَندخلن الجنةّ قبلهم؟ والفرض أنهم مخلوقون من نطفة قذرة، لا تُناسب عالم القدس، فمَن لم يستكمل الإيمان والطاعة، ولم يتخلّق بأخلاق الملائكة، لم يتأهّل لدخولها. ثم قال: ولا يخفى ما في الكل من التمحُّل، والأقرب: أنه كلام مستأنف، سيق تمهيداً لِما بعده مِن بيان قدرته تعالى، على أن يهلكهم، لكفرهم بالبعث والجزاء، واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما نزل عليه من الوحي، وادعائهم دخول الجنة بطريقة السخرية، وينشىء بدلهم قوماً آخرين، فإنَّ قدرته على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بيِّنة على قدرته تعالى على ذلك، كما يُفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى: ﴿فلا أُقسم بربِّ المشارِق والمغاربِ﴾، والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكرنا من أنّا خلقناهم مما يعلمون فأُقسم برب المشارق والمغارب ﴿إِنَّا لقادِرون على أن نُبدِّل خيراً منهم﴾ أي: نُهلكهم بالمرة، حسبما تقتضيه جنايتهم، ونأتي بدلهم بخلقٍ آخرين ليسوا على صفتهم. هـ. ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ ؛ بعاجزين، أو بمغلوبين إن أردنا ذلك، لكن مشيئتَنا المبنية على الحِكمة البالغة اقتضت تأخير عقوبتهم.
﴿
فَذَرْهم﴾ ؛ فدع المكذِّبين ﴿يخوضوا﴾ في باطلهم، التي من جملتها ما حكي عنهم، ﴿ويلعبوا﴾ في دنياهم ﴿حتى يُلاقوا يومَهم الذي يوعدون﴾، وهو يوم البعث عند النفخة الثانية، يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَخرجون من الأجدَاثِ﴾ ؛ القبور ﴿سِراعاً﴾ ؛ جمع سريع، وهو حال من ضمير " يَخرجون " أي: مسرعين إلى الداعي ﴿كأنهم إِلى نُصُبٍ﴾، وهو كل ما نُصب وعُبد من دون الله، وفيه السكون والفتح. ﴿يُوفضون﴾ ؛ يُسرعون، ﴿خاشعةً أبصارُهم﴾، ذليلة، لا يرفعونها خوفاً وذِلة، ﴿ترهقهم ذِلةٌ﴾ : يغشاهم هوان شديد، ﴿ذلك﴾ أي: الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة هو ﴿اليومُ الذي كانوا يُوعَدون﴾ في الدنيا، وهم يكذّبون به.
الإشارة: فما لأهل الإنكار والغفلة قِبَلك أيها الداعي مسرعين، يُحبون الخصوصية بلا مجاهدة، أيطمع كل امرىءٍ منهم أن يُدخل جنةَ نعيم الأرواح، وهي جنة المعارف، كلاً، إنّا خلقناهم مما يعلمون من الطينة الأرضية، فلا يطمع أحدٌ في الخصوصية، حتى تستولي روحانيتُه على بشريته، ومعناه على حسه، وتخنس الطينية الطبيعية تحت أنوار