يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن الجن: ﴿وأنَّا لمسنا السماءَ﴾ أي: طلبنا بلوغ السماء، واستماع كلام أهلها، واللمس،: المسُ، استعير للطلب لأن الماسّ طالب متعرّف، ﴿فوجدناها مُلِئتْ حَرَساً﴾ أي: حُراساً، اسم جمع، كخدم، مفرد اللفظ، ولذلك قيل: ﴿شديداً﴾ أي: قوياً، أي: وجدنا جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسونها، ﴿و﴾ ملئت أيضاً ﴿شُهباً﴾ : جمع شهاب، وهي الشعلة المقتبسة من نار الكواكب، ﴿وأنَّا كنا نقعُدُ منه﴾ أي: من السماء، قبل هذا الوقت، ﴿مقاعِدَ للسمعِ﴾، لاستماع أخبار السماء، يعني: كنَّا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشُهب قبل المبعث، فنقعد نسترق، وقد فسّر في الحديث صفة قعود الجن، وأنهم كانوا واحداً فوق واحد، فمتى احترق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة، فيُلقونها إلى الكُهان، ويزيدون معها، ثم يزيد الكُهانُ للكلمة مائة كذبة.
هذا قبل المبعث، وأمّا بعده فأشار إليه بقوله: ﴿فمَن يستمعِ﴾ ؛ يريد الاستماع ﴿الآنَ﴾ بعد المبعث ﴿يجدْ له شِهَاباً رصداً﴾ أي: شهاباً راصداً له ولأجله، يصده عن الاستماع، أو هو اسم جمع لراصد، على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشُهب، ويمنعونهم من الاستماع، والجمهور على أن ذلك لم يكون قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان الرجم في الجاهلية، ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأوقات، فمُنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا هو الظاهر، وأنّ الرمي كان موجوداً قبل البعثة، إلاَّ أنه قليل، وأشعار الجاهلية محشوة بذلك. انظر الثعلبي. ورُوي في بعض الأخبار: أن إبليس كان يسترق السمع من السموات، فلما وُلد عيسى عليه السلام وبُعث، حُجبت الشياطين عن ثلاث سموات، فلما وُلد محمد ﷺ حُجبت عن السموات كلها، وقُذفت بالنجوم، هـ.
وذكر أبو جعفر العقيلي، بإسناد له إلى لهب بن مالك، قال: حضرت مع رسول الله ﷺ فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبي أنت وأمي؛ نحن أول مَن عرف حراسة السماء، ورصد الشياطين، ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا جئنا إلى كاهن لنا، يُقال له " خطل "، وكان شيخاً كبيراً، قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سننة، فقلنا: يا خطل؛ هل عندك علم بهذا النجوم التي يُرمى بها، فإنّا قد فزعنا منها، وخفنا سوءَ عاقبتها، فقال: ائتوني بسَحَر أُخبركم الخبر، ألِخَيْر أم ضرر، أم لأمن أو حذر،