قلت: ويُجاب بأنَّ هذا من باب الأحوال، وللصحابة في الإيثار أحوال خاصة بهم؛ لشدة يقينهم رضي الله عنهم، وقد خرج الصدّيق رضي الله عنه عن ماله مِراراً، وقال: (تركت لأهلي الله ورسوله)، وكذلك فعل الصحابي الذي قال لامرأته: نوِّمِي صبيانك ليتعشّى ضيف رسول الله ﷺ الذي نزل فيه، ﴿وَيُؤْثِرُون عَلَى أَنفُسِهِمْ... ﴾ [الحشر: ٩] الآية، وصاحب الأحوال معذور، غير أنه لا يُقتدى به في مثل تلك الحال، فإنكار الترمذي بما ذَكَر غير صحيح.
﴿
متكئين فيها﴾
؛ في الجنة، حال من " جزاهم "، والعامل جزاء، ﴿على الأرائك﴾ ؛ على الأسِرة في الحجال، ﴿لا يَرَون فيها شمساً ولا زمهريراً﴾ لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير ـ أي: بردٌ ـ فظِلها دائم؛ وهواها معتدل، لا حرَّ شمس يحمي، ولا شدّة بردٍ يؤذي، فالزمهرير: البرد الشديد، وقيل: القمر، في لغة طيء، أي: الجنة مضيئة لا يُحتاج فيها إلى شمس ولا قمر. وجملة النفي إمّا حال ثانية، أو: من المستكن في (متكئين).
﴿ودانيةً﴾ : عطف على (جنة)، أي: وجنة أخرى دانية ﴿عليهم ظِلالها﴾ ؛ قريبة منهم ظلال أشجارها؛ قال الطيبي: إنما قال: (دانية عليهم) ولم يقل " منهم "؛ لأنَّ الظلال عالية عليهم. هـ. فظلالها فاعل بدانية، كأنهم وُعدوا جنتين؛ لأنهم وُصفوا بالخوف، وقد قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]، ﴿وذًللت قُطوفُها تذليلا﴾ أي: سُخَّرت ثمارها للقائم والقاعد، والمتكىء، وهو حال من " دانية " أي: تدنو عليهم ظلالها في حال تذليل قطوفها. وقال في الحاشية: جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية؛ وفيه لطيفة: أنَّ استدامة الظل مطلوبة هناك، وأمّا الذليل للقطْف فهو على التجدًّد شيئاً بعد شيء، كلما أرادوا أن يقطعوا شيئاً منها ذل لهم، ودنا لهم، قعداً كانوا أو مضطجعين. هـ. وظاهر كلامه: أنَّ " ظلالها " مبتدأ، و " عليهم " خبر، وظاهر كلام الطيبي: أنه فاعل. والقطوف: جمع قِطْف، وهو ما يجتنى من ثمارها.
﴿ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضةٍ﴾ أي: يدير عليهم خَدَمُهم كؤوس الشراب، وكأنه تعالى لَمَّا وصف لباسهم، وهيئة جلوسهم، وطعامهم، ذكر شرابهم، ثم يذكر خدمهم، وما هيأ لهم من المُلك الكبير، و (آنية) : جمع إناء، وهو: وعاء الماء، ﴿وأكواب﴾ أي: مِن فضة، جمع كوب، وهو الكوز العظيم الذي لا أُذن له ولاعروة، ﴿كانت قواريراً﴾ " كان " تامة، أي: كُونت فكانت قوارير بتكوين الله. و (قواريرَ) : حال، أو: ناقصة، أي: كانت في علم الله قوارير، ﴿قواريرا من فِضةٍ﴾ : بدل من الأول، أي: مخلوقة من فضة، قال ابن عطية: يقتضي أنها من زجاج ومن فضة، وذلك ممكن؛ لكونه من زجاج في شفوفه، ومن فضة في جوهره، وكذلك فضة الجنة شفافة. هـ. فهي جامعة لبياض الفضة وحُسنها، وصفاء القوارير وشفيفها، حتى يُرى ما فيها من الشراب من خارجها. قال ابن عباس: قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة فضة. هـ. و " قوارير " ممنوع من


الصفحة التالية
Icon