هيئاتها، ويُسَيّر الجبال على تلك الهيئة الهائلة عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها. هـ. والله أعلم بحقيقة الأمر.
ثم شرع في تفصيل أحكام الفصل بعد بيان هوله، وقدَّم بيان حال الكفرة ترهيباً، فقال: ﴿إنَّ جهنم كانت مِرْصَاداً﴾ أي: موضع الرصد، وهو الارتقاب والانتظار، أي: تنتظر الكفار وترتقبهم ليدخلوا فيها، أو طريقاً يمر عليه الخلق، فالمؤمن يمر عليها، والكافر يقع فيها، أي: كانت في علم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه الخزنةُ الكفارَ ليعذبوهم فيها، ﴿للطاغين مآباً﴾ : نعت لمرصاد، أي: كائناً للطاغين مرجعاً يرجعون إليه لا محالة، ﴿لابثين فيها﴾، ماكثين فيها، وهو حال مُقدَّرة من المستكن في الطاغين. وقرأ حمزة (لبثين)، وهو أبلغ من " لابثين " لأنَّ اللابث مَن يقع منه مطلق اللَّبْث، واللَّبِث مَن شأنه اللبث والمقام، و ﴿أحقاباً﴾ : طرف للبثهم، جمع حُقب، كقُفْل وأقفال، وهو الدهر، ولم يرد به عدداً محصوراً، بل كلما مضى حُقب تبعه حقب، إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحُقب إلاّ حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها. وقيل: الحقب ثمانون سنة، ورُوي عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه ثلاثون ألف سنة. وقال الحسن: ليس للأحقاب عدة إلاّ الخلود.
﴿لا يَذُوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً﴾ : حال من ضمير " لابثين " أي: غير ذائقين فيها ﴿برداً﴾ أي: نسيماً بارداً، بل لهباً حاراً، ﴿ولا شراباً﴾ بارداً، ﴿إلاَّ حميماً﴾ ؛ ماءً حاراً، استثناء منقطع، أي: لا يذوقون في جهنم، أو في الأحقاب، برداً، ولا ينفس عنهم غم حر النهار، أو: نوماً، فإنَّ النوم يطلق عليه البرد، لأنه يبرد سَوْرة العطش، ولا شراباً يُسكن عطشهم، لكن يذوقون فيها ماءً حاراً، يحرق ما يأتي عليه، ﴿وغسَّاقاً﴾ أي: صديداً يسيل من أجسادهم. وفي القاموس: وغَساق كسَحاب وشدّاد: البادرُ المنتن. وقال الهروي عن الليث: (وغساقاً) أي: مُنتناً، ودلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لو أنَّ دلواً من غساق يُهرَاقُ في الدنيا، لأنتَنَ أهلُ الدنيا "، وقيل: ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقون به مع الحميم، يقال: غسقت عينه تغْسَق، إذا سالت. ثم قال: ومَن قرأ بالتخفيف، فهو البارد الذي يُحرق ببرده. هـ.
﴿
جزاءً وِفاقاً﴾
أي: جُوزوا بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم الخبيثة، مصدر بمعنى الصفة، أو: ذا وفاق. ﴿إِنهم كانوا لا يرجون حِساباً﴾ أي: لا يخافون محاسبة الله إياهم، أو: لا يؤمنون بالبعث فيرجعوا حسابه، ﴿وكذّبوا بآياتنا﴾ الناطقة بذلك ﴿كِذَّاباً﴾ أي: تكذيباً مفرطاً، ولذلك كانوا مصرِّين على الكفر وفنون المعاصي. و " فعّال " في باب فعّل فاش. ﴿وكلَّ شيءٍ﴾ من الأشياء، ومِن جملتها أعمالهم الخبيثة، ﴿أحصيناه﴾ أي: حفظناه وضبطناه ﴿كِتاباً﴾، مصدر مؤكد لأحصينا؛ لأنَّ الإحصاء والكتابة من وادٍ واحد،


الصفحة التالية
Icon