بشأنكم وبآلهتكم، ﴿وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبداً﴾ أي: هذا دأبنا أبداً ﴿حتى تُؤمنوا بالله وَحْدَه﴾ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية، والبغضاء محبة.
وحاصل الآية: أنّ الحق تعالى يقول: إن كانت عداوة الكفار لكم إنما هي لأجل إيمانكم بالحق، فعادوهم أنتم، وكافحوهم بالعداوة، وأَظْهِروا البغضاء لهم والمقت، وصَرِّحوا أنّ سبب العداوة ليس إلاّ كفركم بالله، وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة، حتى إن أزلتموه انقلبت العداوةُ مولاةً، وأنتم مقتدون في ذلك بالخليل عليه السلام وسائر الأنبياء، حيث كافحوا الكفارَ بالعداوة، وتوكّلوا على الله. قال ابن عطية: هذه الأسوة مقيّدة بالتبرِّي من المشركين وإشراكهم، وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا ﷺ أسوة حسنة على الإطلاق، في العقائد وفي أحكام الشرع. هـ.
فلكم أسوة فيمن تقدّم. ﴿إِلاَّ قولَ إِبراهيمَ لأبيه لأَستغفرنَّ لك﴾، وذلك لموعدةٍ وعدها إياه، أي: اقتدوا به في كل شيء، ولا تقتدوا به في استغفاره لأبيه الكافر. واستغفاره عليه السلام لأبيه الكافر جائز عقلاً وشرعاً قبل النهي، لوقوعه قبل تبيُّن أنه من أصحاب الجحيم، لكنه ليس مما ينبغي أن يُؤتسى به أصلاً. ﴿وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله من شيءٍ﴾ أي: من هداية ومغفرة وتوفيق. وهذه الجملة من تمام قول المستثنى، كأنه قال: أستغفرُ لك وما في طاقتي إلاّ الاستغفار، إظهاراً للعجز وتفويضاً للأمر. ﴿ربنا عليك توكلنا وإِليك أَنَبْنا﴾ أي: أَقبلنا، ﴿وإِليك المصيرُ﴾ ؛ المرجع، وهو من تمام ما نقل عن إبراهيم عليه السلام ومَن معه مِن الأسوة الحسنة، وهو راجع لِما قبل الاستثناء، قالوه بعد المهاجرة ونشر البغضاء، التجاء إلى الله تعالى في جميع أمورهم، لا سيما في موافقة الكفرة، وكفاية شرورهم، وقيل: معناه: قولوا، فيكون أبتداء كلام خطاباً لهذه الأمة، وضعّفه أبو السعود. وتقديم المعمول لقصر التوكُّل والإنابة والمصير عليه تعالى.
﴿ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا﴾ بأن تُسلطهم علينا، فيفتنونا بعذاب لا نُطيقه، ﴿واغفر لنا﴾ ما فرط منا، ﴿ربنا إِنك أنت العزيزُ﴾ الذي لا يذلّ مَن التجأ إليه، ولا يخيب رجاء مَن توكل عليه، ﴿الحكيمُ﴾ الذي لا يفعل إلاَّ ما فيه حكمة بالغة. وتكرير النداء للمبالغة في التضرُّع والالتجاء.
﴿لقد كان لكم فيهم﴾ ؛ في إبراهيم ومَن معه ﴿أُسوةٌ حسنةً﴾، تكرير للمبالغة في الحث على الاقتداء به، ولذلك صدّره بالقسم. وقوله: ﴿لمَن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر﴾ بدل من " لكم "، وحكمته: الإيذان بأن مَن يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم، وأنّ تركه مخلّ بالإيمان بهما، كما ينبىء عنه قوله تعالى: ﴿ومَن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُّ الحميدُ﴾، فإنه إنما يُوعَد بأمثاله الكفرة، أي: هو الغني عن الخلق، الحميد المستحق للحمد وحده.


الصفحة التالية
Icon