الأمر ووجوب الطاعة، أشد العصيان وأقبحه، حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً. وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عزّ وجل، وترك القولة العظيمة التي يدّعيها الطاغية، ويقبلها منه الفئة الباغية، لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر فقط. قاله أبو السعود.
﴿ثم أّدْبَر﴾ أي: تولَّى عن الطاعة، أو: انصرف عن المجلس ﴿يسعَى﴾ في معارضة الآية، أو: أدبر هارباً من الثعبان، فإنه رُوي أنه عليه السلام لمّا ألقى العَصا انقلب ثعباناً أشعر، فاغراً فاه، بين لحييه ثمانون ذرعاً، فوضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على القصر، فتوجه نحو فرعون، فهرب وأحدَثَ، وانهزم الناسُ مُزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه وقيل: إنها ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مُرني بما شئت، وجعل فرعون يقول: بالذي أرسلك إلاّ أخذته، فأخذه فعاد عصا..
﴿فحشَرَ﴾ أي: فجمع السحرة، كقوله: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ﴾ [الشعراء: ٥٣] أو: جمع الناس، ﴿فنادَى﴾ في المقام الذي اجتمعوا فيه، قيل: قام خطيباً، ﴿فقال أنا ربكم الأعلَى﴾ لا رب فوقي، وكان لهم أصنام يعبدونها. وهذه العظيمة لم يجترىء عليها أحد قبله. قال ابن عطية: وذلك نهاية في المخارقة، ونحوُها باقٍ في ملوك مصر وأتباعهم. هـ. قيل: إنما قال ذلك ابنُ عطية لأنَّ ملك مصر في زمانه كان إسماعيليًّا، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم. وكان أول مَن ملكها منهم: المعتز بن المنصور بن القاسم بن المهدي عبيد الله، وآخرهم العاضد. وقد طهَّر الله مصر من هذا المذهب، بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذا رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً. هـ. من الحاشية.
﴿
فأخَذَه اللهُ نكال الآخرةِ والأُولى﴾ بالإغراق، فالنكال: مصدر بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم، وهو التعذيب الذي ينكل مَن رآه أو سمعه، ويمنعه من تعاطي ما يُفضي إليه. وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد، كوعْدَ الله وصبغةَ الله، وقيل: مصدر لـ " أخذ "، أي: أخذه الله أخذ نكال الآخرة، وقيل: مفعول من أجله، أي: أخذه الله لأجل نكال الآخرة. وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع بعض الأخذ فيهما، لا باعتبار أنَّ ما فيه من المنع والزجر يكون فيهما، فإنَّ ذلك لا يتصور في الآخرة، بل في الدنيا، فإنَّ العقوبة الأخروية تنكل مَن يسمعها، وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة. وقيل: المراد بالآخرة والأولى: قوله: ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾ وقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَاهٍ غَيْرِى﴾ [القصص: ٣٨]. قيل: كان بين الكلمتين أربعون سنة، فالإضافة إضافة المسبب إلى السبب.
﴿إِنَّ في ذلك﴾ أي: فيما ذكره من قصة فرعون وما فعل به ﴿لَعِبرةً﴾ عظيمة ﴿لِمن﴾ شأنه أن ﴿يَخْشَى﴾ وهو مَن عرف الله تعالى وسطوته.