الميتة فحييت. قال القشيري: صَبَبْنا ماءَ الرحمة على القلوب القاسية فَلاَنتْ للتوبة، وماء التعريف على القلوب الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوارُ التجريد. هـ. ثم شققنا أرض البشرية بأنواع العبادات والعبودية، شقًّا، فأنبتنا فيها: في قلبها حَبَّ المحبة، وكَرْمَ الخمرة الأزلية، وقَضْب الزهد في زهرة الدنيا وشهواتها، وزيتوناً يشتعل بزيتها مصابيح العلوم، ونخلاً يجنى منها ثمار حلاوة المعاملة، وحدائق، أي: بساتين المعارف متكاثفة التجليات، وأبًّا، أي: مرعى لأرواحكم، بالفكرة والنظرة في أنوار التجليات الجلالية والجمالية، فيأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء، كما قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
الخلقُ نَوَّارٌ، وَأَنا رَعَيْتُ فيهم
هم الحجب الأكبر والمدخل فيهم
متاعاً لكم، أي: لقلوبكم وأرواحكم، بتقوية العرفان في مقام الإحسان، ولأنعامكم أي: نفوسكم بتقوية اليقين في مقام الإيمان. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فإِذا جاءت الصَّاخةُ﴾ أي: صيحة القيامة، وهي في الأصل: الداهية العظيمة، وسُميت بذلك لأنَّ الخلائق يَصخون لها، اي: يُصيخون لها، مِن: صَخَّ لحديثه: إذا أصاخ له واستمع، وُصفت بها النفخة الثانية لأنَّ الناس يصخون لها، وقيل: هي الصيحة التي تصخ الآذان، أي: تصمها، لشدة وقعها. وجواب (إذا) : محذوف أي: كان من أمر الله ما لا يدخل تحت نطاق العبارة، يدل عليه قوله: ﴿يومَ يفرُّ المرءُ مِنْ أخيه﴾، فالظرف متعلق بذلك الجواب، وقيل: منصوب بأعني، وقيل: بدل من " إذا " أي: يهرب من أخيه لاشتغاله بنفسه، فلا يلتفت إليه ولا يسأل عنه، ﴿و﴾ يفرُّ أيضاً من ﴿أُمهِ وأبيهِ﴾ مع شدة محبتهم فيه في الدنيا، ﴿وصاحبتهِ﴾ أي: زوجته ﴿وبنيهِ﴾، بدأ بالأخ ثم بالأبوين؛ لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين؛ لأنهم أحبُّ، فالآية من باب الترقي. وقيل: أول مَن يفرُّ من أخيه: هابيل، ومن أبويه: إبراهيم، ومن صاحبته: نوح ولوط، ومن ابنه: نوح. ﴿لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنيه﴾ أي: لكل واحد من المذكورين شغل شاغل، وخطب هائل، يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره.
ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء، بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء، فقال: ﴿وجوه يومئذٍ مُسْفِرةٌ﴾ أي: مضيئة متهللة، من: أسفر الصبح: إذا