قدّمت من المجاهدة، وما أخَّرت منها؛ إذ بقدر المجاهدة في خرق العوائد تكون المشاهدة، وبقدر الشكر يكون الصحو، وبقدر الشُرب يكون الرّي، فعند النهاية يظهر قدر البداية، البدايات مجلاة النهايات " فمَن أشرقت بدايته، أشرقت نهايته ". وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الإِنسانُ مَا غرّكَ بِرَبِّكَ الكريم﴾ ؛ أيّ شيءٍ خدعك وجرّأك على عصيانه، وقد علمتَ ما بين يديك من الدواهي التامة، والعواطب الطَامّة، وما سيكون حينئذ من مشاهدة ما قَدَّمتَ من أعمالِك، وما أخّرت؟ والتعرُّض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه مما لا يصلح أن يكون مداراً للاغترار، حسبما يغويه الشيطان، ويقول: افعل ما شئتَ فإنَّ ربك كريم، قد تفضّل عليك في الدنيا، وسيفعل مثله في الآخرة، فإنه قياس عقيم، وتمنية باطلة، بل هو مما يُوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان، كأنه قيل: ما حملك على عصيان ربك، الموصوف بالصفات الزاجرة عنه، الداعية إلى خلافه.
رُوي أنه ﷺ لمّا قرأها قال: " غرَّه جهلُه " وعن عمر رضي الله عنه: غرّه حُمقه، وقال قتادة: غرّه عدوه المسلّط عليه ـ يعني الشيطان ـ وقيل للفضيل: لو أقامك اللهُ تعالى يوم القيامة بين يديه فقال لك: ﴿مَا غرَّك بِرَبِّكَ الكريم﴾ ماذا كنتَ تقول؟ قال: أقول: ستُورك المرخاة، لأنَّ الكريم هو الستّار وأنشدوا:
يا كاتِمَ الذنْب أّمَا تَسْتَحِي
واللهُ في الخلوة رَائِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّك إمْهَالُه
وسترُه طولَ مسَاوِيكا
وقال مقاتل: غرّه عفو الله حين لم يعجل عليه العقوبة، وقال السدي: غرّه رفق الله به، وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني بين يديه، فقال لي: ما غرك بي؟ لقلتُ: غرّني بك بِرّك سالفاً وآنفاً، وقال آخر: أقول: غرّني حلمك، وقال أبو بكر الورّاق: لو قال لي: ما غرَّك بي؟ لقلتُ: غرّني بك كرم الكريم. وهذا السر في التعبير بالكريم، دون سائر الصفات، كأنه لقَّنه الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم، وهكذا قال أبو الفضل العابد:


الصفحة التالية
Icon