والرؤساء والسلاطين، والقيام لهم، وحسن الإقبال عليهم، والأدب في ذلك: إلاّ يكون طمعاً في دنياهم، ولا اتخاذ جاه عندهم كان ﷺ يدخل عليه سادات قريش فيُكرمهم، ويُجلهم، ويُحسن مجالستهم، وقال: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرِموه " هـ. وانظر الأصل الرابع والثمانين في إنزال الناس منازلهم، فقد ذكر فيه: أن العاقل عن الله يُعاشر الناس على ما دبَّر الله لهم، فالغَنِيّ قد أكرمه الله كرامةَ ابتلاء، كما ذكر في تنزيله، فإذا لم تُنزله المنزلةَ التي أنزله الله فيها، فاستهنت به، وحقّرته من غير جرم استحق بذلك الجفاء، فقد تركتَ موافقة الله في تدبيره، وأفسدت عليه دينه وأثمتَه، وكذلك معاملة الملوك والوُلاة على هذا السبيل، فإذا عاملت الملوك والسلاطين بمعاملة الرعية، فقد استخففت بحق السلطان، وكيف يجوز أن تستخف بحقه، والسلطان ظل الله في الأرض؟ به تسكن النفوس، وتجمع الأمور، والناظر إلى ظل الله عليهم في الشغل عن الالتفات إلى أعمالهم.
ثم ذكر أنّ ضد ما ذكر مِن ضعف المعرفة واليقين، وعدم التخلُّص من النفس، فلم تكن لقوتِهم مطالعة ما ذكر، فخافوا على نفوسهم من مخالطتهم أن يجدوا حلاوة بِرهم، فتخلط قلوبُهم بقلوبهم، فجانبوهم، والآخرون نظروا إليهم بغير الجمع، فشغلوا بما ألبسَهم مِن ظله عن جميع ما هم فيه، فلم يضرهم اختلاطهم بهم. وبهذه القوة كان أصحاب رسول الله ﷺ يلقون الأمراء، الذين قد ظهر جَوْرهم، ويقبلون جوائزهم، فكان ابن دينار ومحمد بن واسع، ومَن قبلهم، والحسن البصري، يلقون الأمراء ويَقبلُون منهم، فكانوا يلقونهم بما ذكر من رؤية ظل الله عليهم، ويُظهرون العطف عليهم والنصيحة لهم.
ثم وَجَّه حديثَ ابن عباس: " ملعون مَن أكرم بالغنى وأهان بالفقر " فإنَّ معناه: مَن عظَّم الدنيا وعظَّم أهلها، فأمّا مَن دقت الدنيا في عينه، يرى أهلَها مُبْتَلون بها، بما تقتضيه من القيام بالشكر، ثم غرقه في حِسَابه، فيرحمه كما يرحم الذي ذهب به السيل، ويكرمه، ويبره بما عَوّده الله، وأبقاه على دينه، لئلا يَفسد، فذلك فعل الأنبياء والأولياء، وبذلك وصَّى رسول الله ﷺ فقال: " إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه " فهو إنما يُكرم لله ويهين لله، لا للدنيا، ومن فعل ذلك للدنيا كان ملعونًا، ثم ذكر حديث: " مَن أُعطي حظه من الرفق أُعطي حظَّه من خير الدنيا والآخرة، من حُرمه حُرم كذلك "، ثم ذكر قصة نسْطُور