و ﴿وما أدراك ما سجين﴾ فيه ﴿كتاب مرقوم﴾ لأهل الشقاء شقاوتهم. ﴿ويل يومئذ للمُكَذِّبين﴾ بالحق وبالدالين عليه، ﴿الذين يُكَذِّبون بيوم الدين﴾ وهم أهل النفوس المقبلين على الدنيا بكليتهم، ﴿وما يُكَذِّب به إلاّ كل معتد أثيم﴾ ؛ متجاوز عن الذوق والوجدان، محروم من الكشف والعيان، ﴿إذا تُتلى عليه آياتنا﴾ الدالة علينا ﴿قال أساطيرُ الأولين﴾ أي: إذا سمع الوعظ والتذكير من الدالين على الله قال: خرافات الأولين. وسبب ذلك: الرانُ الذي ينسج على قلبه، كما قال تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئذ لمحجوبون﴾ لمّا رانت قلوبهم، وتراكمت عليها الحظوظ والهوى، حُجبوا عن شهود الحق في الدنيا، ودام حجابهم في العقبى إلاَّ في أوقات قليلة، قال الحسن بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. هـ. قال الواسطي: الكُفار في حجابٍ لا يرونه البتة، والمؤمنون في حجاب يرونه في وقتٍ دون وقتٍ. هـ. أي: والعارفون يرونه كل وقت، ثم قال: ولا حجاب له غيره، وليس يسعه سواه، ما اتصلت بشريةٌ بربوبيته قط، ولا فارقت عنه. هـ.
وقال في الإحياء: النزوع إلى الدنيا يَحجب عن لقاء الله تعالى، وعند الحجاب تتسلط عليهم نار جهنم، إذ النار غير متسلطة إلاّ على محجوب، قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم﴾ فرتَّب العذاب بالنار على ألم الحجاب، وألم الحجاب كافٍ من غير عِلاوة النار، فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه! هـ. وقد رتَّب الحجاب على الران والصدأ المانع من كشف الحقيقة، فكل من طهّر قلبه من ران الهوى، وغسله بأنوار الذكر والفكر لاحت له أنوار المشاهدة وأسرار الحضرة، حتى يشاهد الحق في الدنيا والآخرة، ويكون من المقربين أهل عليين، وكل مَن بقي مع حظوظ هواه حتى غلب على قلبه رانُ الشهوات بقي محجوباً في الدارين من عامة اليمين. وأنواع الران التي تحجب عن الشهود ست: ران الكفر، وران العصيان، وران الغفلة، وران حلاوة الطاعات، وران حس الكائنات، فإذا تصفّى من هذه كلها أفضى إلى مقام العيان، ولا طريق لرفع الران بالكلية إلاَّ بصُحبة المشايخ العارفين. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كلاَّ﴾، ردع للمكذبين، ثم بيّن حال الأبرار، فقال: ﴿إنَّ كتاب الأبرارِ﴾ أي: ما كتب من أعمالهم، والأبرار: المؤمنون المطيعون، لأنه ذُكر في


الصفحة التالية
Icon