الميزان بإهمالها في هواها وحظوظها. والأرض، أي: أرض البشرية وضعها لقيام وظائف العبودية، اليت رتّبها للأنام، فيها فاكهة العلوم الوهبية إن صفت، ونَخْل علوم الشريعة ذات الأكمام، وهي البراهين التي تستخرج بها مسائلها، فمَن وقف مع قشر الأكمام كان مقلِّداً. ومَن نفذ إلى لُبها كان مجتهداً منِ نِحريراً.
وقال القشيري: ﴿والنخلُ ذات الأكمام﴾ من فواكه الوحدانيات المستورة عن الأغيار، المستورة عن غير أهلها. ثم قال: ﴿والحب ذو العصف﴾ من حبة المحبة الذاتية، غير القابلة للتغيُّر والاستبدلال، المشتملة على الأرزاق المكتنفة بالمعارف والحاقئق والحِكِم. هـ. والريحان هو قوت الأرواح من اليقين، أو نسيم الأذواق والوجدان، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذّبان﴾ أيها الثقلان، أو أيها النفس والروح؛ إذ كل منهما فاز بأمنيته، ووصل إلى نهاية ما اشتهاه، إذا عمل بما تقدّم، وأصغى بأُذن قلبه إلى ما عددناه. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿خَلَقَ الإِنسانَ﴾ آدم ﴿من صلصالٍ﴾ من طين يابس، له صلصلة، أي: صوت ﴿كالفَخَّار﴾ كالطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. ولا تخالف بين هذا وبين قوله: ﴿مِّنْ حَمإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦] و ﴿مِّن طِينٍ لاَّزِب﴾ [الصافات: ١١] لاتفاقهما معنىً، لأنَّ المعنى: أنَّ أصل خلقه من تراب، ثم جعله طيناً، ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالاً. ﴿وخَلَقَ الجانَّ﴾ أي: الجن، او أبا الجن إبليس، ﴿من مَارجٍ من نار﴾ والمارج هو اللهب الصافي، الذي لا دخان فيه، وقيل: المختلط بسواد النار، من: مَرجَ الشي: إذا اضطرب أو اختلط، و " مِن ": بيانية، كأ، هـ قيل: مِن صاف النار، أو مختلط من النار، أو أراد: من نار مخصوصة.
﴿فبأي آلاءِ ربكما تُكَذِّبان﴾ مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم. قال القشيري: وكرّر سبحانه هذه الآية في غير موضع، على جهة التقرير بالنعمة على التفاصيل. نعمة بعد نعمة، ووجه النعمة في خلق آدم من طين: أنه رقّاه إلى رتبةٍ
هذه الحياة الدنيوية، ويحصل بعد ذلك محض سعادته وراحته الأبدية. هـ.
قلتُ: إن كان كدحه في طلب مولاه؛ حصل له بعد موته دوام الوصال، وصار إلى روح وريحان، وجنات ورضوان، وإن كان كدحه في طلب الحُور والقصور، بُشّر بدوام السرور، وربما اتصلت روحه بما كان يتمنى، وإن كان كدحه في طلب الدنيا مع إقامة الدين أفضى إلى الراحة من تعبه، وإن كان في طلب الحظوظ والشهوات مع التقصير، انتقل من تعب إلى تعبٍ، والعياذ بالله. وقال أبو بكر بن طاهر: إنك تُعامل ربك معاملة ستعرض عليك في المشهد الأعلى، فاجتهد ألاَّ تخجَل من معاملتك مع خالقك. أهـ.
ثم فصّل ما يلقى بعد اللقاء فقال: ﴿فأما مَن أُوتي كتابه بيمينه﴾ أي: كتاب عمله ﴿فسوف يُحاسب حساباً يسيراً﴾ ؛ سهلاً هيناْ، وهو الذي يُجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات. وفي الحديث: " مَن يحاسَب عُذِّب " فقيل له: فأين قوله تعالى: ﴿فسوف يُحاسب حساباً يسيراً﴾ فقال: " ذلكم العرض، مَن نُوقش الحساب عُذِّب " والعرض: أن يُقال له: فعلتَ كذا وفعلتَ كذا، ثم يُقال له: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. ﴿وينقلبُ إِلى أهله﴾ أي: إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين، أو: إلى فريق المؤمنين، أو: إلى أهله في الجنة من الآدمية أو الحور والغلمان، أو: إلى مَن سبقه من أهله أو عشيرته، إن قلنا: إنَّ الكتاب يُعطى بمجرد اللقاء في البرزخ، فإنَّ الأرواح بعد السؤال تلحق بأهلها وعشيرتها، حسبما تقدّم في الواقعة. وقوله تعالى: ﴿مسروراً﴾ أي: مبتهجاً بحاله، قائلاً: ﴿هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] أو: مسروراً بلقاء ربه ودوام وصاله.
تنبيه: الناس في الحساب على أقسام، منهم مَن لا حساب عليهم ولا عتاب، وهم العارفون المقربون، أهل الفناء في الذات، ومنهم مَن يُحاسب حساباً يسيراً، وهم الصالحون الأبرار، ومنهم مَن يُناقش ويُعذِّب ثم ينجو بالشفاعة، وهم عصاة المؤمنين ممن ينفذ فيهم الوعيد، ومنهم مَن يُناقش ويخلد في العذاب، وهم الكفرة، وإليهم أشار بقوله:
﴿وأمَّا مَن أُوتي كتابَه وراء ظهره﴾، قيل: تغلّ يُمناه إلى عنقه، وتُجعل شماله وراء ظهره. وقيل: يثقب صدره وتخرج منه إلى ظهره، فيعطى كتابه بها وراء ظهره، ﴿فسوف يَدعو ثبُوراً﴾ يقول: واثبوراه. والثبور: الهلاك، ﴿ويَصْلَى سعيراً﴾ أي: يدخلها، ﴿إِنه كان﴾ في الدنيا ﴿في أهله﴾ أي: معهم ﴿مسروراً﴾ بالكفر، يضحك على مَن آمن بالبعث. وقيل: كان لنفسه متابعاً، وفي هواه راتعاً، ﴿إِنه ظن أن لن يَحُورَ﴾ ؛ لن يرجع إلى ربه، تكذيباً بالبعث. قال ابن عباس: ما عرفتُ تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها: حُوري. أي: ارجعي. ﴿بلى﴾ جواب النفي، أي: يرجع لا محالة، ﴿إِنَّ ربه كان به بصيراً﴾ أي: إنَّ ربه الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء " بصيراً " بحيث لا تخفى


الصفحة التالية
Icon